27102012
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسرني أن أنقل إليكم هذه القصة آملاً أن تنال إعجابكم
بعنوان: في غرفة الأحزان
لمصطفى لطفي المنفلوطي
يقول أحدهم: كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه، وكان يروقني منظره، ويؤنسني محضره، قضيت في صحبته عهدًا طويلاً، ما أنكر من أمره، ولا ينكر من أمري شيئاً حتى سافرت سفراً طويلا، فتراسلنا حينا، ثم انقطعت عني كتبه، فرابني من أمره ما رابني، ثم رجعت فجعلت أكبر همي أن أراه، فطلبته في جميع المواطن التي كنت ألقاه فيها فلم أجده، فذهبت إلى منزله، فحدثني جيرانه أنه هجره منذ عهد بعيد، وأنهم لا يعرفون أين مصيره، فوقفت بين اليأس والرجاء برهة من الزمن، يغالب أولهما ثانيهما حتى غلبه، فأيقنت أني قد فقدت الرجل، وأني لن أجد بعد اليوم إليه سبيلا.
هنالك ذرفت من الوجد دموعا ً لا يذرفها إلا من قل نصيبه من الأصدقاء، وأقفر ربعه من الأوفياء، وأًصبح غرضاً من أغراض الأيام.
بينما أنا عائد إلى منزلي في ليلة من ليالي السرار إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلام المدلهم إلى زقاق موحش مهجور يخيل للناظر إليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها أنه مسكن الجان أو مأوى الغيلان، فشعرت كأني أخوض بحرا ً أسود، يزخر بين جبلين شامخين، وكأن أمواجه تقبل بي وتدبر، وترتفع وتنخفض، فما توسطتُ لجته حتى سمعت في منزل من تلك المنازل المهجورة أنّةً تتردد في جوف الليل ثم تلتها أختها ثم أخواتها، فأثر في نفسي مسمعها تأثيراً شديداً وقلت يا للعجب، كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين، وخفايا المحزونين، وكنت قد عاهدت الله قبل اليوم ألا أرى محزوناً حتى أقف أمامه وقفة المساعد إن استطعت، أو الباكي إن عجزت، فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل حتى بلغته، فطرقت الباب طرقاً خفيفاً فلم يفتح، فطرقته أخرى طرقاً شديداً ففتحت لي فتاة صغيرة لم تكد تسلخ العاشرة من عمرها، فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان في يدها، فإذا هي في ثيابها الممزقة، كالبدر وراء الغيوم المتقطعة، وقلت لها: هل عندكم مريض ؟ فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها، وقالت: أدرك أبي أيها الرجل فهو يعالج سكرات الموت، ثم مشت أمامي فتبعتها حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير فدخلتها، فخيل إليّ أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وأن الغرفة قبر، والمريض ميت، فدنوت منه حتى صرت بجانبه، فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي، فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي، ثم فتح شفتيه قليلا ً قليلاً، وقال بصوت خافت "أحمد الله فقد وجدت صديقي"، فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعاً وهلعاً، وعلمت أني قد عثرت بضالتي التي كنت أنشُدها، وكنت أتمنى ألا أعثر بها وهي في طريق الفناء، وعلى باب القضاء، وألا يجدد لي مرآها حزناً كان في قلبي كميناً، وبين أضلعي دفيناً، فسألته ما باله؟، وما هذه الحال التي صار إليها؟ وكأن أنسه بي أمدّ مصباح حياته الضئيل بقليل من النور، فأشار إلي أنه يحب النهوض، فمددت يدي إليه فاعتمد عليها حتى استوى جالساً وأنشأ يقص عليّ القصة التالية:
منذ عشر سنين كنت أسكن أنا ووالدتي بيتاً يسكن بجانبه جار لنا من أرباب الثراء والنعمة، وكان قصره يضم بين جناحيه فتاة ما ضمت القصور وأجنحتها على مثلها حسناً وبهاء، ورونقاً وجمالاً، فألم بنفسي من الوجد بها ما لم استطع معه صبراً، فما زلت بها أعالجها فتمتنع، واستنزلها فتتعذر، وأتأتى إلى قلبها بكل الوسائل فلا أصل إليه، حتى عثرت بمنفذ الوعد بالزواج فانحدرتُ منه إليها، فسكن جماحها، وأسلس قيادها، فسلبتها قلبها وشرفها في يوم واحد، وما هي إلا أيام قلائل حتى عرفت أن جنيناً يضطرب في أحشائها، فأُسقط في يدي، وطفقت أرتئي بين أن أفي لها بوعدي، أو أقطع حبل ودّها، فآثرت آخرهما على أولهما، فهجرت ذلك المنزل الذي كانت تزروني فيه، ولم أعد أعلم بعد ذلك من أمرها شيئاً.
مرت على تلك الحادثة أعوام طوال، وفي ذات يوم جاءني منها مع البريد هذا الكتاب، ومد يده تحت وسادته وأخرج كتاباً بالياً مصفراً فيه:
"لو كان بي أن أكتب إليك لأجدد عهداً دارساً، أو ودّاً قديماً، ما كتبت سطراً، ولا خططت حرفاً، لأني لا أعتقد أن عهدا ً مثل عهدك الغادر، وودّاً مثل ودك الكاذب، يستحق أن أحفل به فأذكره، أو آسف عليه فأطلب تجديده.
إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبي ناراًً تضطرم، وجنيناً يضطرب، تلك للأسف على الماضي، وذاك للخوف من المستقبل، فلم تبالِ بذلك وفررت مني حتى لا تُحمل نفسك مؤونة النظر إلى شقاءٍ أنت صاحبه، ولا تكفل يدك مسح دموع أنت مرسلها، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف ؟ لا ... بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان، لأنك ما تركت خلة من الخلال المتفرقة في نفوس العجماوت وأوابد الوحش إلا جمعتها في نفسك.
خنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفت وعدك ذهاباً بنفسك أن تتزوج امرأة مجرمة ساقطة،.. وما هذه الجريمة ولا تلك السقطة إلا من صنعة يدك، وجريرة نفسك، ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة، فقد دافعتك جهدي حتى عييت بأمرك فسقطت بين يديك سقوط الطفل الصغير، بين يدي الجبار الكبير.
سرقت عفتي، فأصبحت ذليلة النفس حزينة القلب، استثقل الحياة وأستبطئ الأجل، وأي لذة في عيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجةً لرجل، ولا أماً لولد! بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها، مسبلة جفنها، واضعة خدها على كفها، ترتعد أوصالها وتذوب أحشاؤها، خوفا ً من عبث العابثين وتهكم المتهكمين.
سلبتني راحتي، لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر الذي كنت متمتعة فيه بعشرة أبي وأمي، تاركة ورائي تلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغيد إلى منزل حقير في حي مهجور لا يعرفني فيه أحد؛ لأقضي فيه الصبابة الباقية لي من عمري.
قتلت أمي وأبي، فقد علمت أنهما ماتا، وما أحسب موتهما إلا حزنا لفقدي، ويأساً من لقائي.
قتلتني لان ذلك العيش المرّ الذي شربته من كأسك، والهم الطويل الذي عالجته بسببك قد بلغا مبلغهما من جسمي ونفسي، فأصبحت في فراش الموت كالفراشة المحترقة، وأحسب الله قد أصاخ لي فاستجاب دعائي، وأراد أن ينقلني من دار الموت والشقاء إلى دار الآخرة.
فأنت كاذب مخادع، ولص قاتل، ولا أحسب الله تاركك دون أن يأخذ لي بحقي منك.
ما كتبت إليك هذا الكتاب لأجدد بك عهداً، أو أخطب إليك وداً، فأنت أهون علي من ذلك، إنني على باب القبر وفي موقف وداع الحياة بأجمعها خيرها وشرها، سعادتها وشقائها، فلا أمل لي في ود، ولا متسع لعهد، وإنما كتبت إليك لأن لك عندي وديعة، هي فتاتك، فان كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوة، فأقبل إليها وخذها إليك حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمها من قبلها".
فما أتممت قراءة الكتاب حتى نظرت إليه فرأيت مدامعه تتحدر على خديه، فسألته: وماذا تم له بعد ذلك ؟ قال إني ما قرأت هذا الكتاب حتى أحسست برعدة تتمشى في جميع أعضائي، وخيل إلي أن صدري يحاول أن ينشق عن قلبي حزناً وجزعاً، فأسرعت إلى منزلها وهو هذا المنزل الذي تراني فيه الآن، فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لا حراك بها، ورأيت بنتها إلى جانبها تبكي بكاءً مرا، فصعقت لهول ما رأيت، وتمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي وحوش ضارية وأساود ملتفة، هذا ينشب أظافره وذاك يغرز أنيابه، فما أفقت حتى عاهدت الله ألا أبرح هذه الغرفة التي سميتها "غرفة الأحزان" حتى أعيش فيها عيشها وأموت موتها.
وهاأنذا أموت اليوم ...، أسأل الله أن يغفر لي سيئاتي بما قاسيت من العناء، وكابدت من الشقاء.
وما وصل من حديث إلى هذا الحد، حتى انعقد لسانه واكفهر وجهه وسقط على فراشه، فأسلم الروح وهو يقول: ابنتي يا صديقي، فلبثت بجانبه ساعة قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقه، ثم كتبت إلى أصدقائه ومعارفه، فحضروا تشييع جنازته.
ويعلم الله أني أكتب قصته، ولا أملك نفسي من البكاء والنشيج، ولا أنسى ما حييت نداءه لي وهو يودع نسمات الحياة بقوله: "ابنتي يا صديقي".
يسرني أن أنقل إليكم هذه القصة آملاً أن تنال إعجابكم
بعنوان: في غرفة الأحزان
لمصطفى لطفي المنفلوطي
يقول أحدهم: كان لي صديق أحبه لفضله وأدبه، وكان يروقني منظره، ويؤنسني محضره، قضيت في صحبته عهدًا طويلاً، ما أنكر من أمره، ولا ينكر من أمري شيئاً حتى سافرت سفراً طويلا، فتراسلنا حينا، ثم انقطعت عني كتبه، فرابني من أمره ما رابني، ثم رجعت فجعلت أكبر همي أن أراه، فطلبته في جميع المواطن التي كنت ألقاه فيها فلم أجده، فذهبت إلى منزله، فحدثني جيرانه أنه هجره منذ عهد بعيد، وأنهم لا يعرفون أين مصيره، فوقفت بين اليأس والرجاء برهة من الزمن، يغالب أولهما ثانيهما حتى غلبه، فأيقنت أني قد فقدت الرجل، وأني لن أجد بعد اليوم إليه سبيلا.
هنالك ذرفت من الوجد دموعا ً لا يذرفها إلا من قل نصيبه من الأصدقاء، وأقفر ربعه من الأوفياء، وأًصبح غرضاً من أغراض الأيام.
بينما أنا عائد إلى منزلي في ليلة من ليالي السرار إذ دفعني الجهل بالطريق في هذا الظلام المدلهم إلى زقاق موحش مهجور يخيل للناظر إليه في مثل تلك الساعة التي مررت فيها أنه مسكن الجان أو مأوى الغيلان، فشعرت كأني أخوض بحرا ً أسود، يزخر بين جبلين شامخين، وكأن أمواجه تقبل بي وتدبر، وترتفع وتنخفض، فما توسطتُ لجته حتى سمعت في منزل من تلك المنازل المهجورة أنّةً تتردد في جوف الليل ثم تلتها أختها ثم أخواتها، فأثر في نفسي مسمعها تأثيراً شديداً وقلت يا للعجب، كم يكتم هذا الليل في صدره من أسرار البائسين، وخفايا المحزونين، وكنت قد عاهدت الله قبل اليوم ألا أرى محزوناً حتى أقف أمامه وقفة المساعد إن استطعت، أو الباكي إن عجزت، فتلمست الطريق إلى ذلك المنزل حتى بلغته، فطرقت الباب طرقاً خفيفاً فلم يفتح، فطرقته أخرى طرقاً شديداً ففتحت لي فتاة صغيرة لم تكد تسلخ العاشرة من عمرها، فتأملتها على ضوء المصباح الضئيل الذي كان في يدها، فإذا هي في ثيابها الممزقة، كالبدر وراء الغيوم المتقطعة، وقلت لها: هل عندكم مريض ؟ فزفرت زفرة كاد ينقطع لها نياط قلبها، وقالت: أدرك أبي أيها الرجل فهو يعالج سكرات الموت، ثم مشت أمامي فتبعتها حتى وصلت إلى غرفة ذات باب قصير فدخلتها، فخيل إليّ أني قد انتقلت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وأن الغرفة قبر، والمريض ميت، فدنوت منه حتى صرت بجانبه، فإذا قفص من العظم يتردد فيه النفس تردد الهواء في البرج الخشبي، فوضعت يدي على جبينه ففتح عينيه وأطال النظر في وجهي، ثم فتح شفتيه قليلا ً قليلاً، وقال بصوت خافت "أحمد الله فقد وجدت صديقي"، فشعرت كأن قلبي يتمشى في صدري جزعاً وهلعاً، وعلمت أني قد عثرت بضالتي التي كنت أنشُدها، وكنت أتمنى ألا أعثر بها وهي في طريق الفناء، وعلى باب القضاء، وألا يجدد لي مرآها حزناً كان في قلبي كميناً، وبين أضلعي دفيناً، فسألته ما باله؟، وما هذه الحال التي صار إليها؟ وكأن أنسه بي أمدّ مصباح حياته الضئيل بقليل من النور، فأشار إلي أنه يحب النهوض، فمددت يدي إليه فاعتمد عليها حتى استوى جالساً وأنشأ يقص عليّ القصة التالية:
منذ عشر سنين كنت أسكن أنا ووالدتي بيتاً يسكن بجانبه جار لنا من أرباب الثراء والنعمة، وكان قصره يضم بين جناحيه فتاة ما ضمت القصور وأجنحتها على مثلها حسناً وبهاء، ورونقاً وجمالاً، فألم بنفسي من الوجد بها ما لم استطع معه صبراً، فما زلت بها أعالجها فتمتنع، واستنزلها فتتعذر، وأتأتى إلى قلبها بكل الوسائل فلا أصل إليه، حتى عثرت بمنفذ الوعد بالزواج فانحدرتُ منه إليها، فسكن جماحها، وأسلس قيادها، فسلبتها قلبها وشرفها في يوم واحد، وما هي إلا أيام قلائل حتى عرفت أن جنيناً يضطرب في أحشائها، فأُسقط في يدي، وطفقت أرتئي بين أن أفي لها بوعدي، أو أقطع حبل ودّها، فآثرت آخرهما على أولهما، فهجرت ذلك المنزل الذي كانت تزروني فيه، ولم أعد أعلم بعد ذلك من أمرها شيئاً.
مرت على تلك الحادثة أعوام طوال، وفي ذات يوم جاءني منها مع البريد هذا الكتاب، ومد يده تحت وسادته وأخرج كتاباً بالياً مصفراً فيه:
"لو كان بي أن أكتب إليك لأجدد عهداً دارساً، أو ودّاً قديماً، ما كتبت سطراً، ولا خططت حرفاً، لأني لا أعتقد أن عهدا ً مثل عهدك الغادر، وودّاً مثل ودك الكاذب، يستحق أن أحفل به فأذكره، أو آسف عليه فأطلب تجديده.
إنك عرفت حين تركتني أن بين جنبي ناراًً تضطرم، وجنيناً يضطرب، تلك للأسف على الماضي، وذاك للخوف من المستقبل، فلم تبالِ بذلك وفررت مني حتى لا تُحمل نفسك مؤونة النظر إلى شقاءٍ أنت صاحبه، ولا تكفل يدك مسح دموع أنت مرسلها، فهل أستطيع بعد ذلك أن أتصور أنك رجل شريف ؟ لا ... بل لا أستطيع أن أتصور أنك إنسان، لأنك ما تركت خلة من الخلال المتفرقة في نفوس العجماوت وأوابد الوحش إلا جمعتها في نفسك.
خنتني إذ عاهدتني على الزواج فأخلفت وعدك ذهاباً بنفسك أن تتزوج امرأة مجرمة ساقطة،.. وما هذه الجريمة ولا تلك السقطة إلا من صنعة يدك، وجريرة نفسك، ولولاك ما كنت مجرمة ولا ساقطة، فقد دافعتك جهدي حتى عييت بأمرك فسقطت بين يديك سقوط الطفل الصغير، بين يدي الجبار الكبير.
سرقت عفتي، فأصبحت ذليلة النفس حزينة القلب، استثقل الحياة وأستبطئ الأجل، وأي لذة في عيش لامرأة لا تستطيع أن تكون زوجةً لرجل، ولا أماً لولد! بل لا تستطيع أن تعيش في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية إلا وهي خافضة رأسها، مسبلة جفنها، واضعة خدها على كفها، ترتعد أوصالها وتذوب أحشاؤها، خوفا ً من عبث العابثين وتهكم المتهكمين.
سلبتني راحتي، لأني أصبحت مضطرة بعد تلك الحادثة إلى الفرار من ذلك القصر الذي كنت متمتعة فيه بعشرة أبي وأمي، تاركة ورائي تلك النعمة الواسعة وذلك العيش الرغيد إلى منزل حقير في حي مهجور لا يعرفني فيه أحد؛ لأقضي فيه الصبابة الباقية لي من عمري.
قتلت أمي وأبي، فقد علمت أنهما ماتا، وما أحسب موتهما إلا حزنا لفقدي، ويأساً من لقائي.
قتلتني لان ذلك العيش المرّ الذي شربته من كأسك، والهم الطويل الذي عالجته بسببك قد بلغا مبلغهما من جسمي ونفسي، فأصبحت في فراش الموت كالفراشة المحترقة، وأحسب الله قد أصاخ لي فاستجاب دعائي، وأراد أن ينقلني من دار الموت والشقاء إلى دار الآخرة.
فأنت كاذب مخادع، ولص قاتل، ولا أحسب الله تاركك دون أن يأخذ لي بحقي منك.
ما كتبت إليك هذا الكتاب لأجدد بك عهداً، أو أخطب إليك وداً، فأنت أهون علي من ذلك، إنني على باب القبر وفي موقف وداع الحياة بأجمعها خيرها وشرها، سعادتها وشقائها، فلا أمل لي في ود، ولا متسع لعهد، وإنما كتبت إليك لأن لك عندي وديعة، هي فتاتك، فان كان الذي ذهب بالرحمة من قلبك أبقى لك منها رحمة الأبوة، فأقبل إليها وخذها إليك حتى لا يدركها من الشقاء ما أدرك أمها من قبلها".
فما أتممت قراءة الكتاب حتى نظرت إليه فرأيت مدامعه تتحدر على خديه، فسألته: وماذا تم له بعد ذلك ؟ قال إني ما قرأت هذا الكتاب حتى أحسست برعدة تتمشى في جميع أعضائي، وخيل إلي أن صدري يحاول أن ينشق عن قلبي حزناً وجزعاً، فأسرعت إلى منزلها وهو هذا المنزل الذي تراني فيه الآن، فرأيتها في هذه الغرفة على هذا السرير جثة هامدة لا حراك بها، ورأيت بنتها إلى جانبها تبكي بكاءً مرا، فصعقت لهول ما رأيت، وتمثلت لي جرائمي في غشيتي كأنما هي وحوش ضارية وأساود ملتفة، هذا ينشب أظافره وذاك يغرز أنيابه، فما أفقت حتى عاهدت الله ألا أبرح هذه الغرفة التي سميتها "غرفة الأحزان" حتى أعيش فيها عيشها وأموت موتها.
وهاأنذا أموت اليوم ...، أسأل الله أن يغفر لي سيئاتي بما قاسيت من العناء، وكابدت من الشقاء.
وما وصل من حديث إلى هذا الحد، حتى انعقد لسانه واكفهر وجهه وسقط على فراشه، فأسلم الروح وهو يقول: ابنتي يا صديقي، فلبثت بجانبه ساعة قضيت فيها ما يجب على الصديق لصديقه، ثم كتبت إلى أصدقائه ومعارفه، فحضروا تشييع جنازته.
ويعلم الله أني أكتب قصته، ولا أملك نفسي من البكاء والنشيج، ولا أنسى ما حييت نداءه لي وهو يودع نسمات الحياة بقوله: "ابنتي يا صديقي".
تعاليق
رد: في غرفة الأحزان
السبت أكتوبر 27, 2012 3:14 pmkhalifa-dkf
شكرا لك اخي جزاك الله خير
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى