26102012
جامع العلب
إبراهيم راشد الدوسري
(1)
بخطى ثقيلة وظهر محني، يخرج جابر من الزقاق المطل على الشارع، يقف مجهداً تحت جدار عمارة من ثلاثة أدوار، يندس بجسده النحيل في ظل العمارة الشحيح فينزل من فوق ظهره كيس أسود منتفخ بعلب المشروبات الغازية الفارغة التي بدأ جمعها منذ الصباح الباكركعادته كل يوم من أمام البيوت والأزقة وأكياس وبراميل القمامة وحول الطرقات، أسند ظهره إلى الجدار الساخن من أثر شمس الظهيرة ، ومسح بكم ثوبه الرث وجهه المتغضن الغارق في العرق النازف من كل أطراف جسده.
(2)
نظر بعينيه الغائمتين من أثر ضعف البصر إلى الدكاكين والمطاعم والمحال التجارية المنتصبة على الرصيف وناصية الشارع في الجهة المقابلة، أطرق يفكر:
- لماذا لم تنم حتى الآن يا جابر فالفجر أوشك على البزوغ؟
- أفكر يا أمي.
- ما الذي يشغل عقلك يا ولدي .. فأنت ما زلت صغيراً؟
- أفكر في أحوالنا وأحوال الناس، الفقر ينتشر في كل بيت، والرواتب التي يحصل عليها عمال الشركة وأبي من بينهم بالكاد تكفي مصاريف الطعام.. بينما خيرات البلد يستأثر بها الإنجليز الذين يحتلون بلادنا وأتباعهم من الخونة.
- دع عنك السياسة واهتم بدروسك يا ولدي.
وحاذر أن تتكلم في هذه الأمور في وجود والدك، فهو يعلم خطورة ما تتفوه به.
(3)
كانت الشمس الحارة تلهب أسفلت الشارع والسيارات العابرة، وكان نفر قليل من الناس يعبرون على الرصيف يحتمون من وهج الشمس بالسير مسرعين تحت مظلات الدكاكين والمحال التجارية.
نظر جابر إلى كيس العلب، انحنى يتحسس جانبيه بيديه المعروقتين ، وجد أنه لم يمتلئ فقال في نفسه:
- لكي يمتلئ الكيس، لا بد من جمع عشرات العلب.
مسح العرق بكفه من فوق جبهته. اطرق يفكر
حشود من الشباب يملأون الشارع وجابر من بينهم يهتفون بسقوط الاستعمار، ويرفعون صور جمال عبد الناصر وبعض اللافتات المنددة بالاستعمار وأفواه تردد: لا لا للعبودية وكان العرق يغمر الوجوه والصدور.
(4)
عدل جابر من وضع ربط الكوفية الممزقة التي يلف بها رأسه، ثم رفع الكيس على ظهره وخرج من مستطيل ظل العمارة، ولج بقدميه المنتعلتين نعالاً مخرم الحواشي من أثر القدم والاستخدام وبدأ يخطو إلى الشارع، داهمته عاصفة من أصوات أبواق السيارات، لم يعرها اهتماماً ولم يأبه لتطويحات أيادي السواقين تأمره بالابتعاد من أمام سياراتهم.
(5)
صوت طلقات الأعيرة النارية من بنادق شرطة الشغب يدوي في أذنيه، يسقط بالقرب منه ثلاثة من زملائه بعد إصابتهم بالرصاص، تتفرق المظاهرة، يفر هو وبعض من زملائه، يلجون في أحد الأزقة، ينطلق أفراد شرطة الشغب خلف الفارين، يقفون في وسط الزقاق ويطلقون قنابل المسيلة للدموع.
(6)
واصل جابر سيره حتى عبر الشارع إلى الرصيف المقابل، وقف على الرصيف، راحت عيناه تمشطان المكان تبحثان عن علب فارغة، وجد بعضاً منها بجوار حافة الرصيف.
وبالقرب من مدخل أحد الدكاكين، أخذ في التقاطها ووضعها في الكيس.
(7)
نزع الشرطي العصابة السوداء من فوق عينيه، صفعة الضابط الإنجليزي على وجهه ودفعه بيده في صدره فسقط في زاوية غرفة معتمة، كان مقيد اليدين، رفعه الشرطي وأجلسه على المقعد، سأله الضابط باحتقار:
- حتى الكلاب صاروا سياسيين.. ومعارضين للسلطة.
بصق في وجه الضابط.. وصاح بثبات.
- أنتم الكلاب.
- مسح الضابط بكم قميصه البصقة وقال في برود:
- سوف نعرف كيف نجعلك تصير فأراً .. خذوه إلى غرفة التعذيب.
(8)
التفت جابر نحو مدخل أحد المتاجر، كان رجلان يقفان تحت مظلة المتجر وكل منهم في يده علبة مشروب غازي يحتسيان منها وهما يتحدثان، كان أحدهما ينظر له باشمئزاز، رمى الاثنان العلبتين وغادرا المكان، توجه جابر إلى العلبتين، وبينما هو يهم بالتقاطهما سمع خلفه صوتاً يأمره بالابتعاد عن المكان، التفت جابر خلفه فوجد شرطياً ينظر إليه بنظرة حازمة وهو يقول: هيا غادر المكان وإلا قمت بجرك إلى أقرب مركز للشرطة.
التقط جابر العلبتين ووضعهما في الكيس، وخطا بخطوات ثقيلة وهو يبتعد عن الشرطي الذي كانت عيناه تجلد ظهره المحنى كجلد السياط التي مزقت ظهره في غرفة التعذيب.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
على موضوعـ ك المميز و بأنتظار جديدك
و تقبل مروري