منتديات ماي اصحاب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

hicham95
hicham95
عضو متألق
عضو متألق
الجنس : ذكر مشاركات : 554
http://www.twitte.comhttps://www.facebook.com/samhameed167
26102012

قصة: أهداف سويف

ترجمة: صالح الرزوق



وقفت تحت الثلج بانتظار الحافلة و أنا متجمدة من البرد. وقفت لوحدي. استيقظت في الساعة السادسة كالعادة، فغسلت وجهي و ارتديت ثيابي في الظلام القارس البرودة، أما أختي الصغيرة و أخي الصغير فقد واصلا النوم. حضّرت لنفسي بعض الكورن فليكس و أضفت السكر ثم التهمتها. و أخيرا غادرت من الباب الخلفي و ذهبت إلى زاوية شارع كلافام بانتظار الحافلة رقم 37.
كان الثلج بعمق كاحل بوط الفرو و المخمل الأسود الذي أرتديه و الذي ورثته عن أمي. أو بالأحرى ، كما أفترض، الذي تبرعت به والدتي و استعاضت عنه بحذاء عادي ، و لو أن الطقس مثلج.
كنت في الرابعة عشرة. و بشعر أسود دائماً يسعد السيدات الانكليزيات المسنات في الحافلة ( " يا له من شعر مرتب . هل هو طبيعي؟ " ) ، و كم كنت أكره ذلك. بسبب الطقس، يجب أن تنفقي ساعات من التمشيط و الربط و إضافة الدبابيس و هذا لا يقدم و لا يؤخر أمام الجو الإنكليزي المشبع بالرطوبة.
لقد أغرمت بماغي توليفير و أنا كارنينا و إيمي بوفاري و فهمت ظروفهن ، كما لم أفهم ظرف أحد ممن حولي. و في قاع ذهني كنت أشعر أنني بطلة و في منتصف الليل أؤدي بعض الأدوار لمشاهد من الدراما القاسية، و ذلك أمام أختي الصغيرة، و التي في كل الأحوال تعلمت أن تؤدي دور رئيسة قسم و بطريقة تثير الإعجاب لو قارنت ذلك بفتاة لها من العمر ثماني سنوات فقط.
قدمنا إلى إنكلترا بالقارب. جاء والدي أولا، و لكن الوالدة عانت قبل الحصول على إذن للخروج. حصل ذلك في بواكير المرحلة الاشتراكية في مصر، و كانت هناك مصاعب في السفر إلى بلدان أجنبية. أصبحت الخيوط مشدودة ، و كانت البيروقراطية تتحرك ببطء لذلك مر شهران قبل أن نتمكن من الصعود على متن ستار ثيدين و نتوجه لإنكلترا.
انطلقنا من بور سعيد و لكن ستار ثيدين مرت في قناة السويس قادمة من بومباي ، و كانت نقطة انطلاقها سيدني. و على متنها حشود من المستوطنين البائسين العائدين من أستراليا مع حشود من الهنود المهاجرين الذين ملأ التفاؤل قلوبهم ، و كانت تكسو أمي طبقة رقيقة من الهدوء و تحتها مشاعر صامتة بالتفوق. كنا أكاديميين مصريين نتوجه لإنكلترا لإجراء بحث علمي متقدم. لم أكن شخصيا أحمل شهادة الدكتوراة ، و مع ذلك لم يكن من اللائق أن ألعب مع أبناء الهنود الصغار، و لا سيما كريستوفر الصبي البالغ من العمر سبعة عشر عاما، و الطويل و الضعيف و الذي له أنف معقوف و الذي لم يقبل دعوتي لمقابلته على سطح المركب بعد حلول الظلام.
و لكن في لحظة تغلبت فيها روح المغامرة قدمت له عنواني في لندن.
تم استدعائي لغرفة والديّ، و رأيت رسالة فوق المنضدة، باسمي و مفتوحة. و لم يخطر بذهني أن أسأل لماذا حصل ذلك. و كان محتواها يقول إنه من دواعي السرور التعرف عليّ، و إنه يرغب برؤيتي من جديد. و داخل الظرف صورة فوتوغرافية له بحجم صور جواز السفر. رأيت العناد على وجه والديّ. فهما غير مسرورين. و يشعران بالخيبة. كيف تسنى له أن يعرف عنواني. رفعت رأسي. ( لماذا غير مقبول أن أذكر له عنواني؟. و لماذا يجب أن لا أتعرف عليه ). كيف وصل لمعرفة عنواني؟. ضربت حذائيّ ببعضهما و قلت لا أعلم. و هكذا جمدت كذبتي الأولى في الهواء. و لماذا أرسل لي صورته؟. فعلا لم أكن أعرف الإجابة و قلت ذلك. و قد اقتنعا بإجابتي.
" كما تعلمين يجب أن لا تورطي نفسك معه؟ ". " نعم". و لم نتجادل، و التزمنا الصمت، و هذا يشبه الاعتراض البائس. لقد خذلتيننا. لم أرد على رسالته. و لم يكتب لي مرة ثانية - و لو حصل أنّى لي أن أعرف بالموضوع.
و لم أشعر بالغضب لأنني فقدت أثر كريستوفر، و لكن لأنني فقدت مغامرة ممكنة، أي حادث أمر به يمثل لي" مغامرة ممكنة". و عندما تعثرت و آذيت كاحلي، كانت الزيارات المتوقعة للمعالج الفيزيائي، تبدو لي عبارة عن نافذة لعالم المغامرات. و لكن الرجل العجوز الذي دلك لي قدمي و هو ينحني نحوي بفم من غير أسنان ( " يا للتعاسة لأنك لا تسقطين دائماً" قال لي ). كان مسخا و ليس أميرا، و بعد زيارة واحدة أهملت كاحلي و تركته ليشفى من تلقاء نفسه.
و بدأ احتمال القيام بمغامرة يتضاءل، مع فرض منع التجول في الثامنة و النصف مساء، بقرار من الوالدين. ( " حتى في إنكلترا ليس من المناسب أن تكوني بعيدة عن المنزل بعد هذا الوقت يا عزيزتي" ). و لم يكن أمامي طريق مفتوح لإعلان العصيان. و هكذا انتظرت مضطرة شيئا يحصل ضمن هذه الحدود المفروضة.
مرت أيام الانسجام في كالفام الهادئة و بدأت أختنق " أتذمر" . هكذا قالت الوالدة. لم يحصل شيء. فالحياة تمر دون أن تنتبه لي. ثم ذات يوم، و أنا عائدة من المغسلة، قالت الوالدة إن بعض الصغار، و هم صغار راهب يعيش في نهاية الحي، جاؤوا و طلبوا الإذن لأرافقهم مساء لو أحببت. و هي وافقت بالنيابة عني.
لقد تحركت مشاعري.
ثم جاؤوا لمرافقتي. و هم بنتان طويلتان بزوايا حادة و حواجب خفيفة و شعر مضموم إلى الخلف بشكل قصة ذيل الحصان. و صبي له شعر قصير جداً و نظارات و بذة رسمية بنية. شعرت بهبوط في قلبي الذي انهمرت عليه الأضواء. و لكن كنت متماسكة. ها أنا سأذهب مع ثلاثة أفراد من الجيل الشاب ممن هم بنفس عمري. و لم أكن أعلم إلى أين سنذهب ، و لكن الاحتمالات من غير حدود. قد نذهب إلى استراحة في نهاية الحي لنستمع لعلبة الموسيقا. لقد رأيتها من خلال النافذة من خلف الزجاج و هي تلتمع. أو نذهب للسينما ( " نقول عنها فيلم يا عزيزتي") . أو نذهب لنادي شبابي، و كم سمعت عن هذه الأماكن و تصورتها بصورة نادي الجزيرة المحلي، و لكن مع مزيد من جو الإثارة و التحرر. للأسف عوضا عن ذلك ذهبنا إلى الكنيسة.
أضف لما سلف، إنها ليست كنيسة أثرية و من غير إيحاءات. كانت حديثة و عارية و المقاعد على بعد أميال من المنصة. و من هناك وقف والد أصدقائي ليعظ الجموع لفترة طويلة، فترة طويلة من الوقت. و أخبرت نفسي كم هذا شيء رائع. أنهم رافقونني إلى كنيستهم مع أنني مسلمة. و هذا يؤكد أنني أنتمي لهم قليلا - أنني لست مختلفة عنهم كما أعتقد.
و أدينا جميعا الصلوات. أعرف كيف هي الصلاة من الكتب التي أقرأها ، و هكذا أديت الحركات المناسبة، و عندما أحنينا رؤوسنا و أغلقنا عيوننا، لنتصل بصمت مع الله، صليت من أجل تحقيق رغبة قد تريحني من هذه الحياة المريعة و القاسية. و كنت أعلم أنه ليس من دواعي القداسة أن أطلب المتعة و البهجة في الكنيسة، و لكن كنت في تمام اليأس و الإحباط.
قال الراهب: " أصدقائي. في مدينتنا هذا اليوم توجد أعداد متزايدة من الناس الأفاضل الذين يحضرون إلينا من أماكن بعيدة، و من أعراق غريبة، و من معتقدات أجنبية. و يوجد بعض هؤلاء بيننا اليوم. و على كل شخص معنا في هذه الصلاة و يرغب بالانضمام إلينا في محبة عيسى المسيح، أن يرفع يده الآن بينما عيون الجميع مغلقة لتصلي، و سوف أتعرف عليه و أدعوه لاحقا لأدله إلى أقصر طريق لمحبة سيدنا الرب. ارفعوا أيديكم الآن". احتفظت بعيني مغلقتين و بقبضتي مضمومتين على الجانبين. و لم أستطع أن أبتلع لعابي. برأيي لا شك أنه كان يقصدني.
فيما بعد شربنا الشاي في الصالون في مكان ما من المبنى. و كانوا جميعا بجثمان ضخم و باهت مع شعر بني منسدل و ثياب خشنة. أما أنا فقد شعرت بالتقزم و كنت أبدو داكنة و بضمير مضطرب بسبب مظهري الغريب، و لا سيما شعري الغريب، و هكذا وقفت أنتظر أن يقودني أحدهم ليدلني على الطريق لمحبة المسيح. و لحسن الحظ لم يحصل ذلك. و لكن شعرت ، دون أن أعلم ذلك بالضبط، أنني تعرضت للخيانة، و شعرت أنه يجب أن لا أرافق أولاد الراهب مرة أخرى.
في طريق العودة إلى البيت حافظت على عيوني مفتوحة على الصبيان الكبار و العابثين المنتشرين في زوايا الشارع. كان قلبي يحن لهم، و هم يلعبون بدراجاتهم النارية و بصحبة صديقاتهم المرحات و الملونات. إنهم بالضبط من أفتقد لهم، و كلما مررت بأحدهم ، ينتفض قلبي على أمل أنه سيعترض طريقي و يكلمني. و لكن خاب مسعاي. حقا خاب مسعاي. و أبواي لن يسمحا لي أبدا بمرافقتهم. و ذات يوم حينما صفرت لي جماعة من هؤلاء ، كنت في قرارة نفسي أدرك أن الأمر ميؤوس منه. فهم من العصاة. و خامرني الاعتقاد أن طريقتي الأليفة و صوتي المضغوط لن يقويا فرصتي بعقد صداقة معهم. كنت ناشزة عليهم. و أخلاقي تندرج في دائرة أخلاق النخبة البورجوازية الغربية المتحفظة، أما روحي ( و التي لم يشك بها أحد سواي) فهي العنيدة و المتمردة.
بعد أن رفضت عدة مرات مرافقة أبناء الراهب ( " و لكن دائماً تشتكين من عدم توفر أصدقاء لديك" ) ، رأيت الإنقاذ المؤقت من أصدقاء الوالدين فقد ذهبنا لزيارتهم و تبين لي أنه لديهم ولد وسبقني بثلاثة أعوام. و اقترحوا ( و أنا على يقين أن هذا لم يسعده ) أن يرافقني الى المسرح. و لم يكن أمام الوالدين غير الموافقة. و هكذا تم الاتفاق على تدابير في نهاية الأسبوع.
و من دواعي الغرابة أنني حصلت على إذن لأكون في الخارج لوقت متأخر. و على ما يبدو أن الأذن بالذهاب للمسرح لم يكن يتضمن ما سلف أوتوماتيكيا. رغم كل شيء، بمقدور المرء أن ينصرف في منتصف المشهد الأول و يعود الى البيت بالثامنة و النصف. و لكن حصلت على الإذن شريطة العودة في العاشرة و النصف بالضبط. اغتسلت في حمام دافئ و اتخذت أهبتي و ارتديت القفاز الأبيض و التنورة المزركشة. أحاط بنا صمت غريب و عميق. و انتهت هذه الفرصة الوحيدة التي لم تتوفر لي فيها الخيارات في الساعة العاشرة. و هنا اقترح دافيد أن نتناول طعاما خفيف، و لم يكن أمامي غير نصف ساعة للعودة من واترلو إلى كالفام، و لذلك استبعدت الطعام. و أسرعت إلى المنزل. و مع أنه طبع على وجنتي قبلة مساء الخير لدى وصولنا إلى حديقة بيتنا الأمامية، لم يطلب مني أن أرافقه مرة أخرى. كانت هذه أول مغامرة كسبتها: بمعنى أنها قبلتي الأولى. و لم أشعر حيالها بشيء ، و لكن أصبحت بنظري مثل بطلة ناضجة و أقدمت على استعارة روايات عاطفية من مكتبة ميلزوبون و قد قرأتها بلمح البصر ، و وفرت لي عتمة الليل الغطاء المناسب.
و في هذه الأثناء قرر الوالدان أن أفضل طريقة للتصرف معي أن أداوم في المدرسة. كان من المفروض أن أتهيأ في البيت للحصول على شهادة الابتدائية المصرية مع نهاية هذا العام، و لكن الدوام في المدرسة سيملأ كل وقتي. و كذلك سوف تسنح الفرصة لمقابلة أشخاص من عمري و هذا يوفر إمكانية عقد صداقات. تحمست لهذا الاقتراح. كنت دائماً سعيدة في مدرستي بالقاهرة و لا أعتقد أن هذه ليست الحالة هنا. أضف لذلك، تبدو لي المدارس في كتب مثل ( حوليات البنات ) بغاية الإثارة. كان الوالدان ليبراليين و متنورين و لهم أصدقاء و مستشارون من هذا الجو، لذلك قررا أن أنتسب لمدرسة إعدادية في بوتني، و هذا ما حصل. كانت الفترة في بواكير 64. الوقت الذي شاعت به فرقة الخنافس. " أود أن أقبض على يدك" و هم يهزون شعرهم اللماع و الطويل و مؤخراتهم. كان الفوضويون يقودون سياراتهم الفاخرة في قارعة الطريق، وقفت في الثلج قرب موقف الحافلة رقم 37 و أنا أنظر بترقب. كان أول اتصال لي مع المدرسة و في الغرفة المعتمة التي ازدحمت فيها معاطف زرقاء و قبعات و أبواط مبلولة بالمطر.
الاتصال الثاني هو الممر الطويل و العاصف الذي توجب عليّ أن أمر به من غير معطف و ذلك للوصول إلى الجناح الرئيسي من المدرسة.
أما الاتصال الثالث فهو مع ألوف من البنات اللواتي لا ترتدين البذات الخاصة و هن بصالة واسعة لينشدن أغنيات عن صيادي السمك.
لم ينبهني أحد أن هذه مدرسة بنات فقط. كنت دائماً في بلدي بمدرسة مختلطة و من السهل إقامة علاقة مع الصبيان و البنات. فجأة شعرت أن الدوام في المدرسة فكرة غير مثيرة. إنها عبارة عن مكان بارد و واسع و يحتوي على آلاف البنات الضخمات وهن بتنورات لها لون ثياب البحارة الأزرق.
همست المعلمة التي قادتني إلى هناك: " بوسعك أن تعتذري عن هذا الاجتماع على أساس أنك محمدية". و لكن لماذا أخاف منهن. كنت أرغب بالانضمام ، بالاندماج و بصمت حتى أنتمي لهذه الجماعة و لم أكن أنوي أن أعلن أنني محمدية أو مسلمة ثم أجلس في الصالة من غير عمل يأكلني، و معي البنات الباكستانيات اللواتي ترتدين السراويل البيضاء تحت التنورات.
قلت لها: " لا بأس، لا أمانع بالانضمام".
لم تنجح محاولة الذوبان في الجماعة، في أول فرصة تعرفت على سوزان، و هي زعيمة من الدرجة الثالثة. كانت نحيفة و شاحبة مع خطوط و شعر أحمر. قالت: " من أين أنت؟".
" من مصر".
شرحت للأخريات فقالت:" من أرض الفراعنة و التماسيح و هذه الأشياء. هل تذهبين إلى المدرسة على ظهر الجمل؟". و ترافق ذلك مع لهجة ساخرة، و لكن أجبت بجدية:" كلا".
" كيف تذهبين إلى المدرسة إذا؟".
" في الواقع مدرستي قريبة من البيت. لذلك بكل بساطة أسير إليها". و حاولت بهذا الرد أن أستخدم الرموز ( مع أنني أعرف كيف أعبر بأسلوب صريح). لم أذكر بشكل مباشر أنه حتى لو كانت المدرسة بعيدة لن أذهب إليها على ظهر الجمل. و تابعت مجددا أقول: " أصلا نحن نرى الجمال فقط في...".
" هل تسكنين في خيمة؟".
" كلا. نحن نعيش في شقة من مبنى بلجيكي".
" ماذا؟".
" في شقة من مبنى تمتلكه شركة بلجيكية".
" لماذا تتكلمين بهذه الطريقة؟".
" أية طريقة؟".
" مثل معلمة. كما ترين".
انتبهت لذلك. أعلم أنهن تتكلمن بلغة عامية و كنت أستعمل الإنكليزية الفصحى. و لكن بالتأكيد أنا على حق. و على أية حال، حذرتني أحاسيسي أن لا أقول هذا بصراحة.
" كم امرأة تزوج والدك؟".
قلت مباشرة:" واحدة".
" آه. ليس لديه عشرة نساء إذا؟. ما هي مهنته؟".
" والداي يعلمان في الجامعة". كانت هذه غلطة ندمت عليها. لقد ارتبطت بمهنة الأعداء.
" إذا. هما في سلك التعليم".
أجبت: " في الجامعة".
"والد سارة مهندس. و يجني مائة جنيها في الأسبوع. كم يكسب والدك؟".
من الواضح أن والد سارة صياد نقود ماهر من الدرجة الثانية. و لكن ماذا أقول؟. لا شيء. في الواقع كان والدي على راتبه من المنحة؟. و لكن ألا تلاحظون أننا مثقفون. أننا من طبقة؟. لا يمكنك أن توجهي لي أسئلة تافهة كهذه؟.
" لا أعلم".
" حسنا. هل لديك رزم من النقود؟".
و سمعت صوت والدتي يقول: " نحن ننفق نقودنا على السفر و الكتب و المعزوفات. على الثقافة".
قابلت ذلك بصمت. ثم سألت:" هل لديك صديق خاص؟".
سمعت صوت والدتي مجددا:" أعرف بعض الشباب و لي معهم أواصر صداقة".
" أعني هل لديك صديق حميم؟".
فكرت بسرعة. بالكاد يصلح دافيد ليكون صديقا حميما. و لكن لرفع أسهمي كذبت و قلت:" نعم".
" هل تتبادلين القبلات معه؟".
قلت بدهشة:" أفعل ماذا؟". لم أكن أحب فعلا الحديث بهذا الاتجاه. و أخبرني حدس مجهول المصدر أن هذا سيفلت العنان لأسئلة لن أتمكن من الرد عليها.
" تتبادلين معه القبلات؟".
" كلا".
" هل تجلسين في حضنه؟".
" كلا".
" حسنا. لأي درجة وصلت العلاقة؟".
قلت:" ذهبنا الى المسرح". و عند هذه النقطة فقدن الاهتمام. و ابتعدن من غير أن ينفقن تجاهي المزيد من الانتباه. و كانت هناك بنت لها عينان زرقاوان و شعر أسود منسدل و كانت كنيتها شكسبير.
خطر لي بمقدوري أن أعقد معها صداقة. و لكن كانت أقرب صديقة لسوزان و لن تتنافس معها عليها.
كانت المدرسة خطرا كارثيا داهما. فالبنات البيض تعشن في عالم من البريق و العلاقات الحميمة مع الذكور و هذا مجال لا أمتلك جواز سفر له. و البنات السود تعشن في عالم من الغيتو الصامت و تنظرن لي بنفور مشبوه. لقد كنت أقف في الما بين.
و تبقى أندريا البنت ذات الأصل اليوناني. ذات يوم رافقتني في طريق البيت . ثم زارت مطبخنا فيما كانت الوالدة تحضر الغداء. صاحت تقول: " يا إلهي! زيتون. هل أستطيع الحصول على زيتونة؟".
ابتسمت الوالدة بلطف و أهابت بها أن تأخذ عدة زيتونات. و لكن من ناحيتي كان يبدو لي هذا السلوك من الكبائر الواضحة. مع أنني مهذبة معها لم يكن بمقدوري أن أصاحبها.
من الناحية الأكاديمية لم تكن الأحوال أفضل. كنت أمر مرور الكرام بمعظم الموضوعات و لم أوفق بالرياضيات. و لم أفهم السبب آنذاك لأن أدائي كان جيدا في الرياضيات حينما كنت أدرس بمفردي في بلدي الأم. بالنظر إلى الوراء أدركت أن السبب هو تقصيري بالمصطلحات الإنكليزية.
كان المعلم قلقا، رجل يشبه الطيور و يرتدي قميصا أبيض الأكمام. و له عينان واسعتان و تسبحان خلف نظارات بلا إطار. و كان يبدو أيضاً محبطا و قليل الحيلة لذلك لم يخطر لي أن أطلب منه المساعدة. و بالنسبة للذكاء لم يكن بإمكاني أن أختار موضوعا معقدا كالإنكليزية لأجرب حظي معه.
قد تغفر لي المدرسة عدم الأداء البارع في العلوم أو الرياضة و لكن ليس بالإنكليزية. و كانت السيدة بريثوايت بشعرها الأبيض و نظاراتها فوق عينين زرقاوين جداً، و بذتها الخشنة التي تتدلى من الأمام بمقدار أقصر من الخلف، تقول علنا:" المصري يفعل هذا دائماً. يعتمد على الإفريقي ، الأجنبي، ليتعلم لغته الأم. هذا مدعاة للعار". في البداية كنت فخورة بالنفس و خطر لي كم هم مغفلون لأنهم لا يعرفون أن الطيور ذوات الأجنحة " تطير بأسراب" ، و أن اليرقات " تتحول" ، و أن شايلوك يطلب " قيراط اللحم الذي له". و لكن مع تزايد العداوة أدركت أنني وقعت بخطأ آخر. و حاولت أن أتراجع لأتمسك بحبال الصمت، و هذا لم ينفع بشيء. تلك العينان الزرقاوان الحادتان كانتا تبحثان عني و هي تنادينني بالاسم، و لم أكن متواضعة بما يكفي لأقدم الجواب الخاطئ أو لأقول لا أعلم.
في الفرصة تجولت حول الملعب البارد، و أنا أشعر بالحنين لمدرستي المشمسة في القاهرة، و سريعا تعلمت كيف أتسلل لأول وجبة غداء حيث ألتهم بهدوء فطيرة الراعي و الخوخ المجفف و الكاستر، ثم أنسحب إلى المكتبة. هناك توجد زاوية قرب المدفأة الحارة حيث لا تقاطعني النسمات الباردة التي تهب من الهواء أو من الإحساس بالواقع، و هناك تتسنى لي الفرصة لأندمج مع كاثرين إيرنشو أو أتابع التصورات التنبؤية التي تتشكل في نفسي و هي تنمو، حتى أبلغ الثلاثين من العمر و أتحول إلى مصدر للغواية بثوب أسود فائض و أمزك سجائر طويل و عدد من الرجال الوسيمين يرتمون عند أقدامي.
و في حصة الرياضة لم أكن حسنة الحظ. كنت أتسلق و أهبط بصعوبة فوق سلالم الجمباز ، و لكن غالبا يتوجب علينا أن نذهب لنلعب في حقول الهوكي. أسأل لماذا الهوكي؟. لماذا ليس التنس أو كرة اليد؟. كلا. كان الهوكي لعبة المدرسة و هذا ما علينا أن نلعب به. كان الطقس باردا و ضبابيا و رطبا. و البرد يرسل القشعريرة في عظامي، و الضباب يتسبب بالانقراض في صدري، و الرطوبة تحول شعري لشعر أجعد. أما عصا الهوكي فقد أرعبتني. و لدي ذكريات عنها و أنا أضرب بها كاحلي قدمي و ساقي، و أنا عارية من غير حماية، و بثياب الجمباز. كنت أتمسك بالأطراف، و أرتجف و أحمي ساقيّ بعصا الهوكي. لم يكن أمامي مهرب. و الطقس شديد البرودة و لا يساعد على أن أغرق بأحلامي.
و لكن هذا أرضى أهلي. و لم يكن بإمكاني الإقرار بالفشل و التسبب لهم بالإحباط و أنا أخبرهم كم أنا فاشلة في المدرسة. و هكذا اعتدت على الاستئناس بكنز المكتبة. و تقدمي باللغة الإنكليزية. و على المعلومات الشيقة التي أحصل عليها من الأفلام التي نشاهدها في حصة التاريخ و الجغرافيا. و ما تبقى، إذا سألني أحدهم ، يأتي تحت عنوان عريض" لا بأس".
و كإشارة على الموافقة، تلقيت مسجلة من نوع فونوتريكس و بها سجلت أغنيات من " أشهر الأغنيات الشعبية" و " قاضي صندوق الموسيقا". قمت بالتسجيل بواسطة مكبر صوت ، و لكن الصوت الذي حصلت عليه فظيع. و مع ذلك استمعت لها من وراء الفوضى و التشويش و لا سيما أغنية " لا تستطيع أن تشتري لي الحب" و " عندما تفيض الدموع".
كان للموسيقا أثر السحر، و يوميا أعود للبيت من موقف الحافلة، و أنظر من وراء الستائر إلى صندوق الموسيقا الذي يلمع أمام الجدار في زاوية المقهى، كان هناك عالم مظلم و مختلف. و كانت هناك طاولات مربعة لها أغطية بلاستيكية مربعة بالأخضر و الأبيض. و على كل طاولة ممالح بلاستيكية و فلفل و خردل و كاتشب في علب بلاستيك. و وراء الطاولات جلس عجائز لهم قبعات قماشية و سترات و قمصان من غير ربطات عنق. و ذات يوم فتحت الباب. و سمعت صوت رنة صغيرة دخلت بعدها.
كان قلبي يدق. و لم يكن بإمكاني أن أرى بوضوح تام أول الأمر. و كانت المنصة في الطرف البعيد تعوم في الضوء الباهت. تقدمت. وراء المنصة وقف رجل ضخم البنية و يرتدي مريولا مقلما. وضعت على المنصة شلنا و طلبت كوب شاي. فأعاد لي ستة بنسات و قدم كوب الشاي. حملته إلى طاولة في الزاوية و جلست هناك. و عندما التقطت أنفاسي نهضت مجددا و ذهبت إلى صندوق الموسيقا و قرأت العناوين. هنا كنت أقف على أرض ثابتة، وضعت الشلنات التي معي و اخترت ثلاثة تسجيلات. لم أشرب الشاي. كانت قوية و بيضاء و ليست مثل الشاي التي أتناولها في البيت. و مع ذلك شعرت بالحبور. و عندما انتهت الأغنيات غادرت إلى البيت. و لم أخبر أحدا بتفاصيل مغامرتي. و لكن كل ثلاثة أيام، كلما وفرت جنيها و نصف الجنيه من نقودي أتوقف في طريق العودة إلى البيت عند مقهى الزاوية، و أشتري الشاي الذي لا أشربه، و أستمع لصندوق الموسيقا. الخنافس، ستونز، الأنيمالز، بيتر و غوردون، سيلا بلاك، الجينز الأزرق الراقص و دايف كلارك فايف. استمعت لها كلها. و طوال فترة ثلاث أغنيات كنت أطير من السعادة بقوة و نبض الحياة.
دعمتني هذه البهجة السرية عند مقهى الزاوية في حياتي، و لكن في المدرسة كانت الأمور تسير من سيء لأسوأ. جو اللغة الإنكليزية أصبح لا يطاق و بالكاد أستطيع أن أفهم كم أنا غبية بالرياضيات و العلوم. فقد اكتشف مخبئي في المكتبة و غالبا ما كنت أدفع للوقوف في منتصف الباحة. ساقاي تتلقيان الضربات بعصي الهوكي. البنات البيض تعشن حياتهن و الملونات تعشن حياتهن و أنا أتأرجح على تخوم الطرفين. ثم ذات يوم تم الإعلان عن حفل راقص بمناسبة عيد القديس فالنتاين.
و وجه لي ذلك ضربة في الصميم و أصبت بالشحوب. كل هذه البنات ستحضرن بملابسهن الخاصة مع أصدقاء متميزين، و سوف تدخلن حلبة الرقص بسهولة و تتمايلن. هل سأكون أنا زهرة على الجدار؟. غير مرغوب بها؟. مجددا الغريبة الوحيدة؟. لم أحلم بعدم الحضور. عالم البريق و الشهرة ، العاطفة، الإثارة، و المغامرة سوف يعلن عنه لليلة واحدة، و سوف يكون بمتناولي و بالتأكيد سأكون هناك و أقبض عليه.
حصلت على الإذن لحضور الحفلة الراقصة، و على إذن لعدم العودة حتى الحادية عشرة. و طلبت من دافيد الصبي الوحيد الذي أعرفه في لندن أن يرافقني. و اشترت لي والدتي أول زوج من أحذية الكعب العالي: كان هذا النمط يدعى 'le'talon be'be - الكعب الصغير ، و كان الكعب العالي يصل بارتفاعه لبوصة و نصف.
و حل أخيرا يوم الرابع عشر من شباط. كان شعري يلمع، و كان ثوبي الأزرق الحريري بقبعته الصيفية ساحرا، و ارتديت جوارب النايلون، و حذاء الكعب العالي. و جاء دافيد ليرافقني ببذة داكنة . أولا شرب البيبسي مع والدتي قبل أن نغادر. كانت معه سيارة والده، التي استعارها من أجلي، إن كل ليلة تشبه ليلة القديس فالنتاين، و لكن في رأسي كانت السماء مشرقة بالنجوم. كانت تغطيها النجوم.
ذهبنا إلى المدرسة و توجهنا مباشرة إلى صالة الاجتماعات. كانت المدرسة قد تبدلت. إنها الآن ليست ثقيلة و لا باردة و لا معادية. و كانت متحركة و تنبض ، كل باب فيها و كل ممر يقودك إلى عالم سحري حيث من المقرر إقامة الحفل الراقص.
اقتربت الساعة الثامنة ، و نحن ندخل إلى الصالة. الأضواء خافتة و مكبر الصوت يغني: " ارجعي فورا، لا أستطيع أن أحتمل، أنا عاشق و أود لو يفيض عشقي عليك". و لكن لم نجد أحدا في ساحة الرقص. كل البنات موجودات و هن بثياب الاحتفال و قد وقفن بحلقات جماعية في طرف واحد من الصالة. و في الطرف المقابل، و بشكل حلقات صامتة متماسطة من البذات السود، وقف أولاد مدرسة ووندزوورث، و هي المدرسة التوأم لنا.
و بالتدريج فهمت الوضع. البنات لم تحضرن أصدقاءهن. و بعد كل تلك التبجحات عن القبلة و الجلوس في الأحضان، لم تصطحب أية واحدة صبيا معها. كن كلهن هناك. واقفات. تربتن بأقدامهن على الأرض و تنتظرن أولاد ووندزوورث ليطلبوا الرقص معهن.
كان الأولاد مهتاجين، و يتظاهرون أنهم لا يعلمون لماذا هم هنا و يتشاغلون بحوارات ثنائية. ذهبت لأنضم لبعض البنات من صفي لقليل من الوقت، و لكن الحوار كان عقيما و في النهاية وقفت مع رفيقي وحدنا قرب الجدار. و حاولت أن أستمتع بالموسيقا، و لكن كانت ميتة و سطحية. طلب دافيد مني أن نرقص، و لكن كنت أعلم أنه يقوم بواجبه، و أضف لذلك كم شعرت بالخجل أن أقف معه وحدنا في ساحة الرقص.
و مر الوقت و أنا أنتظر، و أتوقع حدوث شيء، أما الأمسية فقد كانت تتداعى ببطء و النجوم تشرق واحدة بعد أخرى. علمت الآن أنه لا يوجد عالم خفي، و لا يوجد منتدى سري لا يقبلني فيه كمنتسبة. كان يوجد هناك شيء واحد - الفراغ.
و بعد أسبوع وقفت كالعادة عند موقف الحافلة من برد الصباح. انتظرت لعدة دقائق رقم 37 ثم انسحبت إلى البيت. و عندما استيقظت الوالدة و رأتني أجلس بثياب المدرسة في المطبخ و أمامي زبدية طازجة من الكورن فليكس و السكر. سألتني: " عائشة ! ما الأمر؟ هل أنت مريضة".
قلت: " كلا".
" حسنا، ما الأمر؟ لماذا أنت لست في المدرسة؟".
" لن أذهب إلى المدرسة بعد الآن؟".
" ماذا؟".
" هل أنت مجنونة؟ ما مشكلتك؟".
" أنا أدرس للحصول على شهادة مصرية، أليس كذلك؟ وأركز على ذلك".
" و لكن لماذا لا تذهبين إلى المدرسة".
" لا أرغب بذلك".
" و لكن لماذا؟".
" لا يوجد ما يشجع".
" و لكن كنت تحبينها".
" و الآن كرهتها".
" ماذا سيقول والدك على ذلك؟".
"............".
" سيغضب".
" لن أذهب إلى المدرسة بعد الآن".
و أخبرت والدي. و عادت و برفقتها احتجاج خاص منه مع التهديد: " أبوك منزعج جداً منك" ثم " أبوك لن يتكلم معك لأسابيع". خطر لي: انسي هذه العواطف كلها. لن أعود للمدرسة. و هكذا أخبرتني بعكس الاتفاق. " لن تحصلي على نقود جيب".
و هذا لم ينفع أيضاً.
كان والداي يذهبان كل يوم إلى الجامعة. و أختي و أخي للمدرسة. و أنا أسحب كنبة الوالد و أضعها أمام التلفزيون، و أحمل معي بعض الخبز المحمص و الزبدة. و أشاهد برامج السباق. أو أشعل جهاز فونوتريكس و أغرق بالأحلام. أو أقرأ. كان كل البيت أرضي و ملعبي من التاسعة صباحا و حتى الخامسة مساء. و هكذا عشت حياتي الخاصة و لم أكن أشعر بالبرد. و لم أقاتل الجو الذي يغمر المساء. و بعد أسبوعين استسلما.
ذات يوم اكتشفت مخبأ سريا للكتب في غرفة نوم الوالدين. مرتفعات فاني، و الروض العاطر للشيخ النفزاوي و الكاما سوطرا. لقد دفعت ثمن تمردي بالعملة الصعبة. و أنفقت العام الخامس عشر من عمري في حلم وردي. و أنا أغوص في كنية، و قلبي يدق لموسيقا الستونز ، و أقرأ الإيروتيكا.
و لكن استطعت أن أنجح في امتحاناتي.


عنوان القصة: 1964. المؤلفة: Ahdaf Soueif. تاريخ النشر: 2007 .

ترجمة صالح الرزوق - شتاء 2011

مُشاطرة هذه المقالة على:reddit

تعاليق

Mr.M!DOoo
السبت ديسمبر 22, 2012 9:16 amMr.M!DOoo
شكرا أــخ هشـام

على موضوعـ ك المميز و بأنتظار جديدك

و تقبل مروري

قصة: أهداف سويف ‏ 884513
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى