26102012
كلّ ظل يعبرُ النافذة... هو ظلُّها
ناصر الريماوي
لكل قرية دربها الغافي على وجع الفراق، محفوفه إما بسرو الكآبة او كينا المرار، الزعرور شجر المقابر العارية يلفها بستر أسماء بهتت على كل الشواهد القديمة... لست جريئاً كي أجرّ خلفي عذاباتي وانا أتبع كل تلك الظلال، كما قلتَ لي فكل ظل سيعبر النافذة هو ظلها أو بقايا خيالات ترتع في العتمة، ذؤابة الفانوس في غرفة العقد العتيقة لم تخمد، منذ " النكبة " الأولى وهي ترشح بالظلال، ظلها الذي غاب وظل طفلين آخرين وقعا على تلة لوز أخضر في "حوشها" الخلفي، ثم تفرّقا... وجهها كان يعبر النافذة نحو "رجم الشوك"، في كل يوم يعربش فوق اغصان الكينا وزعرور المقابر، وأنا أدير إبرة المذياع على برنامج الشتات من مكاني، أتلهف وأنتظر " رسائل شوق... من الأهل سلام وتحية "، حتى تصدح فيروز ... ( وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة يا منزرعين....،) منذ "رُجمْ الشوك" وحتى هذا الزقاق، والليل يضيق بنا، لهذه الذكرى، فلنسترح أو لنشرع بترميم هذه المسامات النافرة على جلد ذاكرة تدمي، تذرف دمعها منذ "النكبة" في جوف شقوق لا تندمل، فما الذي - برأيك - يحرك فوضى حكاياتنا عبرها غير هذه الشقوق، وحشائشها، الكينا ثمر المرار وأوراقه حفيف سموم يهزها الليل، وجذوعه التي تحف الطريق لطالما سرقت منّا أحبة كثر، وبررتها بحجة واهية لنزوة بالانعتاق، ، هذه الليلة تلفني الكآبة...فمن "رجم الشوك" وحتى هذا الزقاق، والبيوت تغرق بحكاياها القديمة ولا تتعدى بأسرارها سياج نبات الصبّار أو رصد "السناسل" الموصدة، لتحرمنا من كل أنس... فبم نقتات حتى ينجلي الليل؟ بالظلال وهي تنسل على مرمى فانوسها الذي لم ينطفىء، أم الأسرار... التي بيني وبينها أربعون صيفاً ونيف، هيه... يا صديقي : " ويا مين جبلي منها شبرة او قمرة... ومن ريحتها تلول ويطمرني..." الأسرار يا صديقي ... قوت الحكايات، ونحن خارجها، سنقتص من الشاي وبراثن التبغ، بلا طائل، فالحكايا تعشش في الشقوق بين حجارة "العقد" وأسقف البيوت العتيقه، حكاياها لم تزل حية ورطبة تطل لتسخر منّا هذه الليلة ومن جلستنا هذه ومما لا نعرف، قدر العشق والعشاق كالأجداد رسائل يومية منقوشة على أسقف الخوابي والقباب، وبيوت العقد تشهد ولا تبوح بسرّها لأحد، يأوي إليها الناس أباً عن جَدّ بإرثها لإتمام جزء يسير من إرث حكاية بدأت ولم تكتمل... ليصيروا بعد حين، هم الزبد وهم الحكاية، ونقشها المتمم لقصة العمر الطويلة، أنظر كيف تعبس في وجوهنا الآن بأقواسها المقطبة على قضبان نوافذ مهجورة، النوافذ لوحدها سرّ لا يتكشف للعابرين مثلي وحزن مختبىء يتحين اللحظة كي يفيض، أما نحن... انا وأنتَ، فأي حكاية سنختار، وأي نقش لإسمينا سيحكي عن شريدين حطّا هنا ثم تفرّقا ؟ وأي "حكي" سيبقى بعد أن يطلع الصبح، وبعد أن نرشق رماد الجمر في موقدنا هذا بماء الشاي ثمر نرحل، إسمع يا صديقي... مرابع البوص أكثر فتنة فلنحرق ما استطعنا من حطب السهر على اسرارها الصغيرة، لكنها في الحقول... على اطراف القرية، فدعنّا "نعزّب" بعيداً، فلا يصطادنا الليل هنا بفخ ذكرياته ويمضي، مع الصباح سنقترف الموبقات بصيد الحساسين، سنعود طفلين، كي ننبش "مدبرة" الجدار المرصوص بالشحف، والذي يفصل بين حقلينا، سنشد الوتر على قوس الصيد ثم نزرع باطنه بين حشائش المرج وأوراق "القريص"، سوف نطارد أفراخ الحجل المذعورة بين "السناسل" حتى يحل الغروب، سوف ندعّي العطش لنقطع الطريق على جرار مملوءة بماء عيون السهل، محمّلة على اكتاف صبايا خطفن قُبلة الصبح من فم الزرّاع ليمزجنها بندى الماء، سوف ندّعي بينهن الرمد، او سنعصر خلاصة عجر التين حول أجفاننا ونقصد سرب حسناوات الحارة " الفوقا " ليقدنّ كهلين مثلنا إلى شعاب الحارة " التحتا "، أو لننسى فنصطاد الجنادب والفراش، نركض مثل طفلين، او نلعب " الحجلة... " منذ " النكبة " وليس لنا غير تلة "رأس علم" فلنصعد إلى القمة، لنتخذ لنا مكاناً هناك على حجر، هنا جلس الكثيرون وأطلّوا على " اللد " و " الرملة " وهيه يا صديقي... كانت إبرة المذياع لا ترحم وينداح الغناء... يجرح : " أحبابنا يا عيني ما هم معانا... رحنا وراحو عنّا ..."
لستُ جريئاً يا صديقي كي اقف في وجه الظلال وهي تعبر حجرتها لتخرج من نافذة كانت بالأمس لها، تنوس مع الذبالة كلما هزها الريح، ولا تحمل الريح سوى أنين آهات لا تجف، وأنا هنا مقهور أعبّ رمل الصحاري على جفاف حلق مزمن، في الغربة يا صديقي، سوف لن تفرق بين السماوات فطعم الهواء واحد، وماء الأرض لن يرويك، وحبيبتك التي رحلت ستظل عرق البال في الطريق، ولن تلومك الدروب إن نظرت لما بعد السراب كي تنبذ الغربة فيك، فسوف تعرفك من قسوة الدبيب لخطواتك المثقلة وتردد الظل في قامتك العالية ... ولن تنبذ غير السراب فينا وفيك.
• من نصوص " حكايا السّهر"
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
على موضوعـ ك المميز و بأنتظار جديدك
و تقبل مروري