- rihعضو فضي
- الجنس : مشاركات : 242
22072010
دفاع عن أبي العتاهية
أبو العتاهية في سطـور :
اسمه ونسبه : جــاء في ]الأغاني فيمــا يختص بنسب أبــي العتاهية : ( أبو العتاهية لقب غلب عليه ، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة ، وكنيته : أبو إسحاق ، وأمه : أم زيد بنت المحاربي ، مولى بني زهرة ) .
سبب كنيته : قيل في ذلك أسباب كثيرة نرجح منها : أنه كني بأبي العتاهية لقول الخليفة المهدي له " أنت إنسان متحذلق معته " فاستوت من ذلك كنيته التي غلبت عليه دون اسمه .
مولده ونشأته : ولد أبو العتاهية سنة : " 130 هـ / 748 م " ونشأ بالكوفة منذ صغره ، وهناك أقام يحمل بين جنبيه وفي أعماقه ، تلك الرفاهية المفرطة في الإحساس وفي الشعور ، وقد شب وفي نفسه شاعرية قوية ، قادته إلى مدارج المجد في بغداد .
أوصافه : روى أبو الفرج عن محمد بن موسى قال : " كان أبو العتاهية قضيفاً ، أبيض اللون أسود الشعر، له وفرة جعدة وهيئة حسنة ولياقة وحصافة " .
وفاتـه : كانت وفاته سنة " 210 هـ/826 م " وقيل بل توفي سنة 211 هـ ، وقيل 213 هـ ، وأنه مات في يوم واحد هو وإبراهيم الموصلي وأبو عمر وعبد السلام الشيباني في خلافة المأمون ، ودفن حيال قنطرة الزيتون في الجانب الغربي ببغداد .
نبـوغه :
قال أبو العتاهية عن نفسه : " لو شئت أن أجعل كلامي كله شعرا لفعلت " . ولم يكن أبو العتاهية مغاليا في قوله هذا ، فمن يطالع ما كتب عنه يجد الكثير من الشواهد التي تؤكد على أنه كان شاعرا مطبوعا مجيدا ، جمع بين غزارة المادة وسهولة النظم .
وقد روي عنه أنه : " كان حلو الإنشاد ، مليح الحركات ، شديد الطرب ، أقـدر الناس على وزن الكلام
حتى أنه كان يتكلم بالشعر في جميع حالاته ويخاطب به جميع الناس " .
وسئل يوما : " أتعرف العروض ؟ فقال : أنا أكبر من العروض" .
و دليل صدقه على قوله هذا ، أن له أوزانا لا تدخل في العروض مع حسن نظمها .
وخروجه على العروض يدل على أنه كان يميل إلى التجديد في الشعر ، أن لم يكن أحد مبتكريه ، فقد حرر نفسه من التعقيد بالمعاني والألفاظ والأوزان وأتى بمعان جديدة .. قال عنه المبرد في الكامل : " كان اسماعيل بن القاسم أبو العتاهية حسن الشعر ، قريب المأخذ ، لشعره ديباجة ، ويخرج القول منه لمخرج النفس ، قوة وسهولة واقتدارا " .. وقد أقر معاصرو أبى العتاهية له بالتفوق على عصره بشعره .. حيث ذكر اليزيدي عن الفراء قـال : " دخلت على جعفر بن يحيى فقال : يا أبا زكريا ما تقول فيما أقول ؟
قلت وما تقول ؟ قال : أزعم أن أبا العتاهية اشعر هذا العصر ، فقلت هو والله قولي ، وهو أشعرهم عندي " .
وسئل أبو نواس وسلم الخاسر وغيرهما عن أبي العتاهية فقالوا: "هو أشعر الإنس والجن " .
وقال عنه مصعب بن عبد الله : " هو أشعر الناس ".. وقال عنه إبن الأعرابي : " لم أر شاعرا أطبع ولا أقدر على بيت منه ، وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر " .
• قلنا إن المتتبع لأخبار أبي العتاهية ، وما كتب عنه يجد الكثير من الشواهد ، التي تدل على قوة شاعريته ونبوغه واقتداره على قول الشعر متى أراد ذلك ، مع حسن نظمه وسهولة لفظه وغزارة معناه .
ولعل ثمة من يقول : إن مثل هذه الأحكام كثيرة عند أدباء تلك الأيام ، حيث أن الواحد منهم كان إذا ما استحسن بيتا أو بيتين يقول لقائلها بالتفوق على غيره .
ولذا فإنني أفضل أن اسوق بعضا من آراء الشعراء أنفسهم ، ذلك أنهم يعرفون أكثر من غيرهم متى ولماذا يحكمون له أو عليه . فأحكامهم عادة ما تكون مبنية على نقد صحيح وتحليل دقيق لمعاني الشعر القريبة منه والبعيدة ، والتي تحتاج إلى إمعان نظر وروية وتفكر قبل إصدار الحكم .
• قيل أنه أتى الشهرزوري سلما الخاسر وقال له : أنشدني لنفسك . قال : لا ، ولكن أنشدك لأشعر الجن والإنس ، لأبي العتاهية ، ثم أنشده قوله :
سكــن يبقى لـه سكــن ما بهذا يؤذن الزمــن
نحــن فــي دار يخبرنــا ببلاهـا ناطـــق لســـن
دار سوء لم يــدم فـرح لإمرئ فيها ولا حـزن
في سبيـل اللــه أنفسنـا كلنـا بالموت مرتهـــن
كل نفس عنــد ميتتهــا حظها من مالهـا كفـن
إن مال المرء ليس لـه منه إلا ذكـره الحســن
• وقيل لأبي نواس : أنت أشعر الناس ، فقال : أما والشيخ حي فـلا " يعني أبا العتاهية ".
• وقال أيضا : والله ما رأيت أبا العتاهية قط إلا ظننت أنه سماء وانا أرض .
• وقال أبو تمام : لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شاركه فيها أحد ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر وهي :
* النـــــاس فـــــــــــي غفلاتهـــــم ورحــــــى المنيــــــة تطحــــــــن
* ألم تر أن الفقير يرجى له الغنى وأن الغني يخشى عليه من الفقر
* ولمـــــا استقلــــــوا بأثقالهــــــم وقد أزمعـــوا الــــــذي أزمعـــــوا
قرنـــــت التفانـــــي بآثارهــــــــــم واتبعتهـــــــم مقلـــــــة تدمـــــع
* هب الدنيا تصير إليـــك عفــــــوا أليس مصير ذاك إلـــى الـــــزوال
• وقال بشار لأشجع ، وقد سمع شعرا لأبي العتاهية في المهدي : ويحك يا أخا سليم ، أترى الخليفة لم يطر من فراشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي .. ؟
• وقال بشار لأبي العتاهية : أنا والله استحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول :
كم من صديق لي أسارقه البكـاء مـــــــن الحيــاء
فـــــــإذا تأمـــــل لامنـــــي فأقول : ما بي من بكاء
لكــــن ذهبــــت لأرتـــــدي فطرفـــت عينـي بالرداء
ولأجل النبوغ وهذا التفوق وهذه الشاعرية الخصبة ، كان أبو العتاهية عند كل الأدباء والشعراء أشعر أهل زمانه بلا منازع ، ولذا فقد خصه الخلفاء بمنزلة رفيعة ، ولقى عندهم من الرفعة والتقدير ما لم يكن لغيره .
من الكوفـة إلى بغـداد :
ثمة تطور كبير حدث في مسار حياة أبي العتاهية ، فأثر في شعره تأثيرا كبيرا ، وذلك بعد أن قدم إلى بغداد واستقر بها .. ففي بغداد نمت شخصيته واكتسبت ألوانا من الصقل والنماء بفعل تغير الظروف والملابسات في نفسه ومن حوله .
وليس من الغريب أن تُحدِث بغداد كل هذا الأثر في نفس شاعرنا ، ذلك أنها كانت قد بلغت من الرقـي والتقدم ما جعلها ملتقى الأنظار ، ومحط الرحال لمختلـف الأجناس ، وهي بالتالي حاضرة الدولة الاسلاميــة ، ومركز إشعاع للعلم والمعرفـة ، لا غنى لكل من ينشد الكمال والارتقاء في أي مجال من مجالات الحياة ، من أن يشد إليها الرحال ، ويهجر في سبيلها الأهل والعيال .
لذا فقد شد أبو العتاهية إليها رحاله واستوطن كغيره بها ، ومن ثم فقد كان لها في نفسه وفي تكوين شخصيته الأثر الفاعل والمؤثر . فما أن مرت عليه أيام قلائل حتى أصبح له كيان جديد واعتبار آخر .. فقـد ذاع شعره وطار صيته بين الناس وأصبح موضع اهتمامهم . غير أن هذا كله لا يسقط ما للكوفة من أثر في تكوينه واستعداده ونضوجه المبكر .. فهو وإن لم ينل بها قسطا وافرا من العلم والمعرفة ، إلا أنه لم يكن بمعزل عن النشاط العقلي والازدهار الفني اللذين كانت تزخر بهما الكوفة .
هذا بالاضافة إلى أنه - وكما نعرف - كان قد قضى من عمره في الكوفة مدة ثلاثين عاما ، زخرت نفسه خلالها بالطموح البعيد والأماني العراض .. وكان إلى جانب ذلك يملك من الاستعدادات والقدرات الفكرية قدرا كافيا ، ومن النضج المبكر الذي يلاحظ في ظهور ملكاته الفنية في وقت مبكر .
وهذا ما يفسر لنا مقدرته على الوقوف على أقدام ثابتة أمام الخليفة في بغداد ، وربما كان قد حظي في الكوفة بنصيب وافر من الثقافة والمعرفة ، وإن لم يكن يعدل ذلك القسط الأوفر والحفظ الأكمل بعد استقراره ببغداد ، الشئ الذي عمل على تخليص شخصيته وميوله من تلك الشوائب التي كانت تلوث سلوكه في مقتبل عمره .
فقد روى أن أبا العتاهية كان يسكن الكوفة ، فلما رأى اقتداره على الشعر ، قدم مع إبراهيم الموصلي إلى بغداد ثم افترقا ، ونزل هو الحيرة ، ثم اشتهر ذكره وسمع به الخليفة المهدي فأقدمه إلى بغداد ، فدخل عليه أبو العتاهية وامتدحه ونال جوائزه .
ثم اتصل بالخلفاء من بعده ، وله أخبار مختلفة مع الهادي وهارون الرشيد والأمين والمأمون ، وكلهم كانوا معجبين بأشعاره ، وأثنوا عليه صلاتهم وقدموه على غيره ، لأنه كان إلى جانب نبوغه واقتداره على قول الشعر " حلو الإنشاد ، مليح الحركات ، شديد الطب ، حسن الهيئة والمظهر ، حلو الكلام لينه ".
• ولكنه ما لبث أن عدل عن قول الشعر إلى التصوف ، فترك منادمة الخلفاء ، وتزهد ، وأخذ يذكر الموت وأهواله ، فحبسه الرشيد ثم رضي عنه فأطلقه ، فعاد إلى الشعر ، ولكنه ترك الغزل والهجاء حتى توفي .
الأثر الديني في شعـره :
بخلاف ما قيل ويقال عنه ، كان أبو العتاهية مسلما يؤمن بالله وبحدوث العالم ويقول بالبعث والحساب واليوم الآخر .. يصرح في شعره بالدينونة والحساب ويستشف الكثير من معانيه من الكتاب والسنة .
لكنه وعلى الرغم من هذا كله ، أتهم بالكفر والزندقة تارة ، وبأنه يقول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمنون بالبعث تارة أخرى .. واعتمدوا في تقولهم عليه على الكثير من الظن الذي هو أقرب إلى الشك منه إلى اليقين
• من ذلك قولهم : إن شعره يدعو إلى ترك الدنيا والانصراف إلى الآخرة انصرافا كليا .
• ومنه أيضا أن شعره في ذكر الموت دون ذكر النشور والميعاد .
إلى غير ذلك من الادعاءات والحجج الواهية التي لا تملك من الصدق نصيبا .
ومما لا شك فيه أنهم قـد ظلموه أيما ظلم ، ذلك أنه لا يحمل في شعره رسالة جديدة ، ولا يضع مبادئ فلسفية خاصة ، وإنما يضع روح الدين ومبادئه في معان جديدة وقوالب شعرية تدعو إلى احتقار الحياة الدنيا وتعظيم الآخرة .
ومن العجب أن يتقول البعض عليه دون أن يكلف نفسه عناء النظر الفاحص إلى شعره ولا حتى مطالعة ما كتب عنه الثقات من أدباء عصره .
ولو فعل البعض ذلك وتريث في إصدار الحكم عليه لوجده بخلاف بقية الشعراء ، يتزي بزي الفقراء ، ويتغنى بأناشيد الزهد ، ويهجر الخلفاء ، ويمتنع عن قول الغزل فيسجن ويعذب من أجل أن يعود إلى الغزل، لكنه يأبى ذلك إلى أن يموت ، فهل ثمة شاعر آخر فعل ما فعل هو .. ؟
أليس من الغريب إذن أن لا أجد ممن قرأت لهم ، من كتب عنه منصفا وعادلا في حكمه عليه
غيرالأستاذ أنيس المقدسى الذى يبرر ما نسب إليه بقوله : " أما زندقته واتهامه بمذهب الفلاسفة فليس في شعره ما يثبتها ، ولم يذكره ابن النديم في جملة شعراء الزنادقة الذين عاصروا أبا العتاهية ".
ويقول عنه أيضا : " اقرأ كل ديوانه فلا ترى إلا ، دعوة إلى التحرر من قيود المطامع . . . فأنت في ذلك وفي سائر شعره أمام منبر واعظ ، يرشدك إلى سبيل القناعة ، سبيل الخير كما ينص عليها الدين " .
• أليس من الغريب إذن أن يُرمَى أبو العتاهية بالزندقة والمجون والكفر ، وهو الشاعر الوحيد الذي تفرغ تفرغا يكاد يكون كاملا، للزهد ودعوة الناس إلى الزهد ، في وقت تفشى فيه المجون والفسق وكثر فيه الإلحاد والكفر .
• أليس من الغريب أيضا ، أن نطالع لنقادنا الذين يقلبون الحقائق رأسا على عقب ، أدلتهم التي لا تقبل الشك عن إيمان وصدق توبة أبي نواس .
ولعلك قد تعجب أكثر إذا علمت أن هناك من يؤكد على أن الله نفسه قـد تاب على أبي نواس وغفر له ما قد أسلف ، وعده البعض الآخر من أهل الجنة ، لأنه قال أبيات قلائل في أخريات ايامه مقرا فيها بذنبه .. فلماذا إذن يختلف الرأي فيمن خلف لنا ديوانا كاملا في الزهد .. ؟
• أبا العتاهية ليس فى حاجة أن نسوق من أجله الأدلة والبراهين على صدق إيمانه ، فبخلاف سيرته الذاتية تجد في ديوانه الكثير من الأدلة والبراهين مما يدحض حجج وأباطيل خصومه وشانئيه .
يقال - وكما أسلفنا - إن شعر ابي العتاهية يدعو إلى نبذ الدنيا والتجرد والانقطاع للآخرة . ويقال عنه ظلما أنه يقول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمنون بالبعث والحساب . ويقال عنه أيضا أنه لا يؤمن بالله ولا بحدوث العالم ، وأنه في شعره يصرح بالموت والفناء دون ذكر النشور والميعاد .
وقبل أن أترك أبا العتاهية يدافع عن نفسه وبنفسه ، أذكر القارئ بالعصر الذي كان يعيش فيه وببغداد التي كانت تحتضن الكثير من شعراء المجون الذين يشيعون الفسق والرذيلة والفساد بين الناس .
• كان أبو العتاهية دائم التوكل على الله كثير الحمد له ، راض بالحاضر إذا قورن بالمستقبل ، متخذا من أحداث الزمان وكر الأيام مواعظا وعبرا :
أنــا باللــه وحـــــده وإليــــــه *** إنمـا الخيـر كله في يدــيه
أحمـد الله وهو ألهمني الحمـ ـــــــــ ـد على المن والمزيد لديه
كم زمـان بكيت منـــه قديمــــاً ** ثم لمـا مضى بكيت عليـــه
هكذا ينطلق أبو العتاهية ، بإيمانه المطلق وشاعريته الجليلة ولحنه الشجي ، بكلماته الصادقة ومعانيه الرفيعة السامية ، ينطلق بروح الداعية الذي لا يسأم ، يندد بمطامع الإنسان وأباطيل الحياة ، ولهذا فقد شاع شعره بين الناس وتناقلته الألسن واهتم به العامة والخاصة .
• لقد كان في دعوته شديد التأثر بمبادئ الإسلام ، ويضمن معانيه في أشعاره بطريقة لا تخلو من براعة وذكاء :
ألا إلى الله تصيـر الأمـور ما أنتِ يا دنياي إلا غرور
إن امرءا يصفو له عيشـة لغافل عمــا تجـــن القبــور
مقتبسا هذا المعنى من قوله تعالى : " ألا إلى الله تصير الأمور " .
• ويقول مشجعا على ذكر الله وعبادته وشكره :
للـــه عاقبـــة الأمـــور طوبــى لمعتبـر ذكـــور
طوبـــى لكــل مراقـــب ولكــــل أواب شكــــور
من قوله تعالى : " ولله عاقبة الأمور " .
• ولو أردنا أن نتقصى ما اقتبسه أبو العتاهية من القرآن والسنة لوجدنا ذلك شيئا كثيرا ، يطالعنا في زهدياته ، في كل قصيدة ، وفي كل صفحة من ديوانه أو ما يقرب ذلك ، ولقد لاحظ ذلك القدماء والمحدثون .
• يرى ابن المعتز أنه في قوله :
فانظر بعينيك حيث شئـ ـت فلن تــرى إلا بخيـــلا
أراد ما في سورة الإسراء " قل لوكنتم تملكون خزائن رحمة ربي لأمسكتم خشية الإنفاق ، وكان الإنسان قتورا " .
• وفي قوله :
يا أيها الرجل الحريص أما ترى أعلام وجهك كل يوم تدرسُ
بك لا أبا لك قـد خلقت موكــلا ملك يعـد عليـك ما تتنفـــسُ
تراه قد ألبس هذا المعنى الذي تفهمه من قوله تعالى: " وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " .
وأيضا في قوله ، وكما يرى المبرد :
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ** وينجو بإذن الله من حيث يحذر ُ
ومعنى ذلك واضح أخذه من الآية الكريمة التي تقول : " عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " .
وأبو العتاهية ، بالرغم مما قيل عنه ، يقر بوحدانية الله وتفرده في الكثير من قصائده ، فهو حين يقول :
شهدنا لك اللهم أن لست والداً ** ولكنك المولى ولست بمولود
يذكرك بقوله تعالى : " قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد " .
وأخبر أحمد الأزدي قال ، قال لي أبو العتاهية: " لم أقل شيئا قط أحب إليّ من هذين البيتين :
ليت شعري فإنني لست أدري أي يوم يكون آخر عمري
وبــأي البـــلاد يقبض روحـي وبأي البلاد يحفــر قبــري "
ومؤدى هذين البيتين وكما هو واضح مستوحى من الآية الكريمة : " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " .
وروى أبو الفرج أن ثمامة بن أشرس قال : أنشدني أبو العتاهية :
إذا المرء لم ينفق من المال نفسه تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنمـا مالي الـــذي أنـــا منفـــــقٌ وليس المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مــال فبـادر بـــه الــذي يحق وإلا استهلكته مهالكـه
فقلت له : من أين قضيت بهذا . . ؟ قال : من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " .
وحدث الصولي عن محمد بن أبي العتاهية قال : جاذب رجل من كنانة أبا العتاهية في شئ ، ففاخر عليه الكناني واستطا بقوم من أهله ، فقال أبو العتاهية :
دعنـي مــن ذكــــر أب وجــــد ونسب يعليك سور المجـد
ما الفخر إلا في التقى والزهد وطاعة تعطي جنان الخلد
وأنت ترى أنه قد استقى هذا المعنى الذي ضمنه هذين البيتين من قول الرسول الكريم :
" لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى " .
وكذلك نرى معنى هذا الحديث في قوله ، عندما عير بمهنة الحجامة التي اشتغل بها بعض الوقت :
ألا إنما التقوى هي العز والكرمْ وحبـــك للدنيـــا هــو الفقـر والعـــدمْ
وليس علــى عبـد تقـي نقيصــةٌ إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجمْ
• وأخيرا ألا ترى معي في هذا البيت :
ولا تدع مكسبا حـلالا تكـن منه على بيـان
معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب التاجر الصدوق والصانع الناصح لأنه حكيم ".
وبهذه الأمثلة يتبين لنا سر ذلك الطابع المميز وتلك المعاني الجليلة الواضحة التي تفرد بها أبو العتاهية عن بقية شعراء عصره .. يقول طه حسين في مقارنة أجراها بين إبي العتاهية وأبى العلاء المعري : " كان أبو العلاء يستقصي من الفلسفة ولا يتقيد بالدين ، وكان أبو العتاهية يستقصي من الدين ويتقيد به ، وهذا الفرق ظاهر في شعر الرجلين " .
عـزلتــه
استطاع أبو العتاهية أن يصل إلى منزلة رفيعة ومكانة مشرفة في القصر وبين الشعراء وعامة الناس .. والرجل الطموح لا يتخلى ابدا عما كسب بنبوغه وتفوقه إلا إذا كان في سبيل الإرتقاء إلى منزلة أعلى ومكانة أسمى .
وأبو العتاهية لا كغيره من الشعراء ، تخلى عن المكانة الرفيعة والمنزلة المشرفة التي نالها ، وهجر مجالس الخلفاء ونوادي الشعراء ، واعتزل الناس ليعيش حياة العزلة والتفرد .
فهل كان وراء ذلك ثمة سبب وجيه يفسر لنا سر هذا التجرد والانقطاع عن مخالطة الناس ؟ ذات يوم اجتمع الشعراء على باب الرشيد ، فأذن لهم فدخلوا عليه ، وأنشدوا .
فأنشد أبو العتاهية :
يا من تبغي زمنا صالحا صلاح هارون صلاح الزمن
كل لسان هـو في ملكــه بالشكر في إحسانـه مرتهـن
فاهتز الرشيد طربا وقال له : أحسنت والله . وقيل أنه : " ما خرج في ذلك اليوم أحد من الشعراء بصلة غيره" .
قضى أبو العتاهية مدة في عيشة الهناء والبسط بين حاشية الخلفاء ، يحضر مجالسهم ويطربهم بشعره . ويقال أنه اتصل بموسى الهادي بعد موت المهدي ، ثم بالرشيد بعد موت الهادي فنادمه ، ولكنه ما لبث أن ترك منادمته بعدما تنسك وعدل عن قول الشعر إلى التصوف والزهد ، وطفق يذكر الموت وأهواله ، فحبسه الرشيد ، ثم رضى عنه فأطلقه ، فعاد إلى الشعر ، ولكنه ترك الغزل والهجاء ، غير مبال في ذلك من أن يفقد مكانته الرفيعة في القصر ، وأن يحبس ويعذب .
أمره الرشيد ذات يوم أن يقول شعرا في الغزل ، فامتنع ، فضربه الرشيد ستين عصا ، وحبسه ، وحلف إلا يطلق سراحه حتى يقول شعرا في الغزل .
وأخبرنا محمد بن يزيد : بلغني أن الرشيد لما ضرب أبا العتاهية وكل به صاحب خبر يكتب إليه بكل ما يسمعه ، فكتب إليه أنه سمعه ينشد ،
أمـا واللــه إن الظلـم لـــؤم وما زال المسئ هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصـوم
قال : فبكى الرشيد ، وأمر بإحضار أبي العتاهية وإطلاقه ، وأمر له بألفي دينار .
• إنك تحس دائما في كلماته ، نبرة من الصدق والثبات على المبدأ .. استمع إليه وهــو يهجــو الملوك :
إن الملـوك بــلاء حيثمـــا حَلُّــوا فـلا يكـن لك في أكنافهـــم ظـــل
ماذا ترجى بقوم إن هـم غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا
وإن نصحت لهم ظنوك تخدعهم واستثقلـوك كمـا يستثقل الظــــل
فاستغـن بالله عن أبوابهم كرما إن الوقـوف علـى أبوابهــــم ذل
وقال أبو العتاهية : ماتت بنت المهدي ، فحزن المهدي عليها حزنا شديدا حتى امتنع عن الطعام والشراب ، فقلت أبياتا أعزيه بها ، فوافيته وقد سلا وضحك وأكل وهو يقول : " لا بد من الصبر على ما لا بد منه ، ولئن سلونا عمن فقدنا ، ليسلون عنا من يفقدنا ، وما يأتي الليل والنهار على شئ إلا أبلياه " . فلما سمعت هذا منه قلت : يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي أن أنشدك ؟ قال : هات ، فاأنشدته :
ما للجـديــن لا يبـلى اختلافهمــا وكــل غصـن جديـد فيهمــا بــال
يا من سلا عن حبيب بعد ميتته كم بعد موتك أيضا عنك من سال
كـــأن كـــل نعيـــم أنــت ذائقـــه من لذة العيش يحكي لمعــة الآل
لتلعبـــن بــك الدنيا وأنت تـــرى ما شئت من عبـر فيها وأمثـــــال
ما حيلة الموت إلا كل صالحـــةٍ وإلا فمــا حيلـــة فيــــه لمحتـــال
فهذا قول شديد يقول يلقيه في وجه الخليفة ، فيه تعريض لاذع ، ولكنه مغلف بنسيج الوعظ ، وموشى بصياغة التزهيد التي تجعل ثقيله سهلا بل محبوبا إلى نفس المهدي الذي قال له بعد الإنشاد :
" أحسنت ويحك وأصبت ما في نفسي ووعظت وأوجزت " .
• ثم يعدل عن منادمة الخلفاء إلى الزهد والتصوف ، وتاب توبة صادقة ابتعدت به حتى عن الناس الذين كانت له معهم قصة أخرى . فقد لقى من الناس ضلالا وفسادا ، كما وجد منهم عنتا وبلاء ، فتكونت في نفسه هذه الصورة القاتمة عنهم :
برمـت بالنـاس وأخلاقهــم فصرت أستأنس بالوحدة
ما أكثر الناس لمعمر وما أقلهم فــي منتهى العــدة
والواقع أنه كان برما بالناس ساخطا عليهم . فقد حدث روح بن الفرج قال : "شاور رجل ابا العتاهية فيما ينقشه على خاتم ، فقال : أنقش عليه : لعنة الله على الناس ، وأنشد البيتين السابقين " .
وفي الحق أن أبا العتاهية كان يشعر في معاملتهم له بالكثير من النقص والهوان . فقد حدث الصولي عن محمد بن أبي العتاهية قال : جاذب رجل من كنانة أبا العتاهية في شئ ففخر عليه الكناني ، واستطال بقوم من أهله ، فقال أبو االعتاهية :
دعنـــيَ مــن ذكـــر أبٍ وجـــدِّ ** ونسبٍ يعليك سور المجــدِ
ما الفخر إلا في التقى والزهدِ ** وطاعة تعطي جنان الخلـدِ
ولعل هذا هو السبب و الوجيه الذي كان يقود أبا العتاهية إلى التصوف واعتزال الناس .. وقد كان الناس لا يكفون عن ملاحقته ، يعيرونه بنسبه تارة وبمهنته تارة أخرى ، ولا يجد أبو العتاهية ما يدفع به أذاهم عنه إلا أن يقول :
ألا إنما التقوى هي العز والكرم ** وحبـــك للدنيـــا هــو الفقـر والعــدم
وليس على عبـد تقـــي نقيصــة ** إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
وعن مناسبة هذين البيتين ، أخبر يحي بن خالد أن أبا العتاهية قد نسك ، وأنه جلس يحجم الناس للأجر تواضعا بذلك ، فقال : ألم يكن يبيع الجرار قبل ذلك ؟ فقيل له : بلى ، فقال : أما في بيع الجرار من الذل ما يكفيه ، ويستغني به عن الحجامة .
لهذا فقد اعتزل الناس ، واعتزل أيضا الخلفاء والأمراء ، وهذا دليل صدق على تنسكه وزهده في وقت كان يتودد فيه كبار الشعراء بشعرهم طالبين الشهرة والمال .
• وهكذا آثر أبو العتاهية العزلة والوحدة ، وطفق يردد في شعره أن اعتزال الناس والبعد عنهم هو الخير والسداد والصلاح :
سأقنع قلبي أن يحن إليهم ** وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وأقطع أيامي بيوم سهولة ** أزجي به عمري ويوم حزونـي
أو يردد قولـه :
أبو العتاهية في سطـور :
اسمه ونسبه : جــاء في ]الأغاني فيمــا يختص بنسب أبــي العتاهية : ( أبو العتاهية لقب غلب عليه ، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان مولى عنزة ، وكنيته : أبو إسحاق ، وأمه : أم زيد بنت المحاربي ، مولى بني زهرة ) .
سبب كنيته : قيل في ذلك أسباب كثيرة نرجح منها : أنه كني بأبي العتاهية لقول الخليفة المهدي له " أنت إنسان متحذلق معته " فاستوت من ذلك كنيته التي غلبت عليه دون اسمه .
مولده ونشأته : ولد أبو العتاهية سنة : " 130 هـ / 748 م " ونشأ بالكوفة منذ صغره ، وهناك أقام يحمل بين جنبيه وفي أعماقه ، تلك الرفاهية المفرطة في الإحساس وفي الشعور ، وقد شب وفي نفسه شاعرية قوية ، قادته إلى مدارج المجد في بغداد .
أوصافه : روى أبو الفرج عن محمد بن موسى قال : " كان أبو العتاهية قضيفاً ، أبيض اللون أسود الشعر، له وفرة جعدة وهيئة حسنة ولياقة وحصافة " .
وفاتـه : كانت وفاته سنة " 210 هـ/826 م " وقيل بل توفي سنة 211 هـ ، وقيل 213 هـ ، وأنه مات في يوم واحد هو وإبراهيم الموصلي وأبو عمر وعبد السلام الشيباني في خلافة المأمون ، ودفن حيال قنطرة الزيتون في الجانب الغربي ببغداد .
نبـوغه :
قال أبو العتاهية عن نفسه : " لو شئت أن أجعل كلامي كله شعرا لفعلت " . ولم يكن أبو العتاهية مغاليا في قوله هذا ، فمن يطالع ما كتب عنه يجد الكثير من الشواهد التي تؤكد على أنه كان شاعرا مطبوعا مجيدا ، جمع بين غزارة المادة وسهولة النظم .
وقد روي عنه أنه : " كان حلو الإنشاد ، مليح الحركات ، شديد الطرب ، أقـدر الناس على وزن الكلام
حتى أنه كان يتكلم بالشعر في جميع حالاته ويخاطب به جميع الناس " .
وسئل يوما : " أتعرف العروض ؟ فقال : أنا أكبر من العروض" .
و دليل صدقه على قوله هذا ، أن له أوزانا لا تدخل في العروض مع حسن نظمها .
وخروجه على العروض يدل على أنه كان يميل إلى التجديد في الشعر ، أن لم يكن أحد مبتكريه ، فقد حرر نفسه من التعقيد بالمعاني والألفاظ والأوزان وأتى بمعان جديدة .. قال عنه المبرد في الكامل : " كان اسماعيل بن القاسم أبو العتاهية حسن الشعر ، قريب المأخذ ، لشعره ديباجة ، ويخرج القول منه لمخرج النفس ، قوة وسهولة واقتدارا " .. وقد أقر معاصرو أبى العتاهية له بالتفوق على عصره بشعره .. حيث ذكر اليزيدي عن الفراء قـال : " دخلت على جعفر بن يحيى فقال : يا أبا زكريا ما تقول فيما أقول ؟
قلت وما تقول ؟ قال : أزعم أن أبا العتاهية اشعر هذا العصر ، فقلت هو والله قولي ، وهو أشعرهم عندي " .
وسئل أبو نواس وسلم الخاسر وغيرهما عن أبي العتاهية فقالوا: "هو أشعر الإنس والجن " .
وقال عنه مصعب بن عبد الله : " هو أشعر الناس ".. وقال عنه إبن الأعرابي : " لم أر شاعرا أطبع ولا أقدر على بيت منه ، وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر " .
• قلنا إن المتتبع لأخبار أبي العتاهية ، وما كتب عنه يجد الكثير من الشواهد ، التي تدل على قوة شاعريته ونبوغه واقتداره على قول الشعر متى أراد ذلك ، مع حسن نظمه وسهولة لفظه وغزارة معناه .
ولعل ثمة من يقول : إن مثل هذه الأحكام كثيرة عند أدباء تلك الأيام ، حيث أن الواحد منهم كان إذا ما استحسن بيتا أو بيتين يقول لقائلها بالتفوق على غيره .
ولذا فإنني أفضل أن اسوق بعضا من آراء الشعراء أنفسهم ، ذلك أنهم يعرفون أكثر من غيرهم متى ولماذا يحكمون له أو عليه . فأحكامهم عادة ما تكون مبنية على نقد صحيح وتحليل دقيق لمعاني الشعر القريبة منه والبعيدة ، والتي تحتاج إلى إمعان نظر وروية وتفكر قبل إصدار الحكم .
• قيل أنه أتى الشهرزوري سلما الخاسر وقال له : أنشدني لنفسك . قال : لا ، ولكن أنشدك لأشعر الجن والإنس ، لأبي العتاهية ، ثم أنشده قوله :
سكــن يبقى لـه سكــن ما بهذا يؤذن الزمــن
نحــن فــي دار يخبرنــا ببلاهـا ناطـــق لســـن
دار سوء لم يــدم فـرح لإمرئ فيها ولا حـزن
في سبيـل اللــه أنفسنـا كلنـا بالموت مرتهـــن
كل نفس عنــد ميتتهــا حظها من مالهـا كفـن
إن مال المرء ليس لـه منه إلا ذكـره الحســن
• وقيل لأبي نواس : أنت أشعر الناس ، فقال : أما والشيخ حي فـلا " يعني أبا العتاهية ".
• وقال أيضا : والله ما رأيت أبا العتاهية قط إلا ظننت أنه سماء وانا أرض .
• وقال أبو تمام : لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شاركه فيها أحد ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر وهي :
* النـــــاس فـــــــــــي غفلاتهـــــم ورحــــــى المنيــــــة تطحــــــــن
* ألم تر أن الفقير يرجى له الغنى وأن الغني يخشى عليه من الفقر
* ولمـــــا استقلــــــوا بأثقالهــــــم وقد أزمعـــوا الــــــذي أزمعـــــوا
قرنـــــت التفانـــــي بآثارهــــــــــم واتبعتهـــــــم مقلـــــــة تدمـــــع
* هب الدنيا تصير إليـــك عفــــــوا أليس مصير ذاك إلـــى الـــــزوال
• وقال بشار لأشجع ، وقد سمع شعرا لأبي العتاهية في المهدي : ويحك يا أخا سليم ، أترى الخليفة لم يطر من فراشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي .. ؟
• وقال بشار لأبي العتاهية : أنا والله استحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول :
كم من صديق لي أسارقه البكـاء مـــــــن الحيــاء
فـــــــإذا تأمـــــل لامنـــــي فأقول : ما بي من بكاء
لكــــن ذهبــــت لأرتـــــدي فطرفـــت عينـي بالرداء
ولأجل النبوغ وهذا التفوق وهذه الشاعرية الخصبة ، كان أبو العتاهية عند كل الأدباء والشعراء أشعر أهل زمانه بلا منازع ، ولذا فقد خصه الخلفاء بمنزلة رفيعة ، ولقى عندهم من الرفعة والتقدير ما لم يكن لغيره .
من الكوفـة إلى بغـداد :
ثمة تطور كبير حدث في مسار حياة أبي العتاهية ، فأثر في شعره تأثيرا كبيرا ، وذلك بعد أن قدم إلى بغداد واستقر بها .. ففي بغداد نمت شخصيته واكتسبت ألوانا من الصقل والنماء بفعل تغير الظروف والملابسات في نفسه ومن حوله .
وليس من الغريب أن تُحدِث بغداد كل هذا الأثر في نفس شاعرنا ، ذلك أنها كانت قد بلغت من الرقـي والتقدم ما جعلها ملتقى الأنظار ، ومحط الرحال لمختلـف الأجناس ، وهي بالتالي حاضرة الدولة الاسلاميــة ، ومركز إشعاع للعلم والمعرفـة ، لا غنى لكل من ينشد الكمال والارتقاء في أي مجال من مجالات الحياة ، من أن يشد إليها الرحال ، ويهجر في سبيلها الأهل والعيال .
لذا فقد شد أبو العتاهية إليها رحاله واستوطن كغيره بها ، ومن ثم فقد كان لها في نفسه وفي تكوين شخصيته الأثر الفاعل والمؤثر . فما أن مرت عليه أيام قلائل حتى أصبح له كيان جديد واعتبار آخر .. فقـد ذاع شعره وطار صيته بين الناس وأصبح موضع اهتمامهم . غير أن هذا كله لا يسقط ما للكوفة من أثر في تكوينه واستعداده ونضوجه المبكر .. فهو وإن لم ينل بها قسطا وافرا من العلم والمعرفة ، إلا أنه لم يكن بمعزل عن النشاط العقلي والازدهار الفني اللذين كانت تزخر بهما الكوفة .
هذا بالاضافة إلى أنه - وكما نعرف - كان قد قضى من عمره في الكوفة مدة ثلاثين عاما ، زخرت نفسه خلالها بالطموح البعيد والأماني العراض .. وكان إلى جانب ذلك يملك من الاستعدادات والقدرات الفكرية قدرا كافيا ، ومن النضج المبكر الذي يلاحظ في ظهور ملكاته الفنية في وقت مبكر .
وهذا ما يفسر لنا مقدرته على الوقوف على أقدام ثابتة أمام الخليفة في بغداد ، وربما كان قد حظي في الكوفة بنصيب وافر من الثقافة والمعرفة ، وإن لم يكن يعدل ذلك القسط الأوفر والحفظ الأكمل بعد استقراره ببغداد ، الشئ الذي عمل على تخليص شخصيته وميوله من تلك الشوائب التي كانت تلوث سلوكه في مقتبل عمره .
فقد روى أن أبا العتاهية كان يسكن الكوفة ، فلما رأى اقتداره على الشعر ، قدم مع إبراهيم الموصلي إلى بغداد ثم افترقا ، ونزل هو الحيرة ، ثم اشتهر ذكره وسمع به الخليفة المهدي فأقدمه إلى بغداد ، فدخل عليه أبو العتاهية وامتدحه ونال جوائزه .
ثم اتصل بالخلفاء من بعده ، وله أخبار مختلفة مع الهادي وهارون الرشيد والأمين والمأمون ، وكلهم كانوا معجبين بأشعاره ، وأثنوا عليه صلاتهم وقدموه على غيره ، لأنه كان إلى جانب نبوغه واقتداره على قول الشعر " حلو الإنشاد ، مليح الحركات ، شديد الطب ، حسن الهيئة والمظهر ، حلو الكلام لينه ".
• ولكنه ما لبث أن عدل عن قول الشعر إلى التصوف ، فترك منادمة الخلفاء ، وتزهد ، وأخذ يذكر الموت وأهواله ، فحبسه الرشيد ثم رضي عنه فأطلقه ، فعاد إلى الشعر ، ولكنه ترك الغزل والهجاء حتى توفي .
الأثر الديني في شعـره :
بخلاف ما قيل ويقال عنه ، كان أبو العتاهية مسلما يؤمن بالله وبحدوث العالم ويقول بالبعث والحساب واليوم الآخر .. يصرح في شعره بالدينونة والحساب ويستشف الكثير من معانيه من الكتاب والسنة .
لكنه وعلى الرغم من هذا كله ، أتهم بالكفر والزندقة تارة ، وبأنه يقول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمنون بالبعث تارة أخرى .. واعتمدوا في تقولهم عليه على الكثير من الظن الذي هو أقرب إلى الشك منه إلى اليقين
• من ذلك قولهم : إن شعره يدعو إلى ترك الدنيا والانصراف إلى الآخرة انصرافا كليا .
• ومنه أيضا أن شعره في ذكر الموت دون ذكر النشور والميعاد .
إلى غير ذلك من الادعاءات والحجج الواهية التي لا تملك من الصدق نصيبا .
ومما لا شك فيه أنهم قـد ظلموه أيما ظلم ، ذلك أنه لا يحمل في شعره رسالة جديدة ، ولا يضع مبادئ فلسفية خاصة ، وإنما يضع روح الدين ومبادئه في معان جديدة وقوالب شعرية تدعو إلى احتقار الحياة الدنيا وتعظيم الآخرة .
ومن العجب أن يتقول البعض عليه دون أن يكلف نفسه عناء النظر الفاحص إلى شعره ولا حتى مطالعة ما كتب عنه الثقات من أدباء عصره .
ولو فعل البعض ذلك وتريث في إصدار الحكم عليه لوجده بخلاف بقية الشعراء ، يتزي بزي الفقراء ، ويتغنى بأناشيد الزهد ، ويهجر الخلفاء ، ويمتنع عن قول الغزل فيسجن ويعذب من أجل أن يعود إلى الغزل، لكنه يأبى ذلك إلى أن يموت ، فهل ثمة شاعر آخر فعل ما فعل هو .. ؟
أليس من الغريب إذن أن لا أجد ممن قرأت لهم ، من كتب عنه منصفا وعادلا في حكمه عليه
غيرالأستاذ أنيس المقدسى الذى يبرر ما نسب إليه بقوله : " أما زندقته واتهامه بمذهب الفلاسفة فليس في شعره ما يثبتها ، ولم يذكره ابن النديم في جملة شعراء الزنادقة الذين عاصروا أبا العتاهية ".
ويقول عنه أيضا : " اقرأ كل ديوانه فلا ترى إلا ، دعوة إلى التحرر من قيود المطامع . . . فأنت في ذلك وفي سائر شعره أمام منبر واعظ ، يرشدك إلى سبيل القناعة ، سبيل الخير كما ينص عليها الدين " .
• أليس من الغريب إذن أن يُرمَى أبو العتاهية بالزندقة والمجون والكفر ، وهو الشاعر الوحيد الذي تفرغ تفرغا يكاد يكون كاملا، للزهد ودعوة الناس إلى الزهد ، في وقت تفشى فيه المجون والفسق وكثر فيه الإلحاد والكفر .
• أليس من الغريب أيضا ، أن نطالع لنقادنا الذين يقلبون الحقائق رأسا على عقب ، أدلتهم التي لا تقبل الشك عن إيمان وصدق توبة أبي نواس .
ولعلك قد تعجب أكثر إذا علمت أن هناك من يؤكد على أن الله نفسه قـد تاب على أبي نواس وغفر له ما قد أسلف ، وعده البعض الآخر من أهل الجنة ، لأنه قال أبيات قلائل في أخريات ايامه مقرا فيها بذنبه .. فلماذا إذن يختلف الرأي فيمن خلف لنا ديوانا كاملا في الزهد .. ؟
• أبا العتاهية ليس فى حاجة أن نسوق من أجله الأدلة والبراهين على صدق إيمانه ، فبخلاف سيرته الذاتية تجد في ديوانه الكثير من الأدلة والبراهين مما يدحض حجج وأباطيل خصومه وشانئيه .
يقال - وكما أسلفنا - إن شعر ابي العتاهية يدعو إلى نبذ الدنيا والتجرد والانقطاع للآخرة . ويقال عنه ظلما أنه يقول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمنون بالبعث والحساب . ويقال عنه أيضا أنه لا يؤمن بالله ولا بحدوث العالم ، وأنه في شعره يصرح بالموت والفناء دون ذكر النشور والميعاد .
وقبل أن أترك أبا العتاهية يدافع عن نفسه وبنفسه ، أذكر القارئ بالعصر الذي كان يعيش فيه وببغداد التي كانت تحتضن الكثير من شعراء المجون الذين يشيعون الفسق والرذيلة والفساد بين الناس .
• كان أبو العتاهية دائم التوكل على الله كثير الحمد له ، راض بالحاضر إذا قورن بالمستقبل ، متخذا من أحداث الزمان وكر الأيام مواعظا وعبرا :
أنــا باللــه وحـــــده وإليــــــه *** إنمـا الخيـر كله في يدــيه
أحمـد الله وهو ألهمني الحمـ ـــــــــ ـد على المن والمزيد لديه
كم زمـان بكيت منـــه قديمــــاً ** ثم لمـا مضى بكيت عليـــه
هكذا ينطلق أبو العتاهية ، بإيمانه المطلق وشاعريته الجليلة ولحنه الشجي ، بكلماته الصادقة ومعانيه الرفيعة السامية ، ينطلق بروح الداعية الذي لا يسأم ، يندد بمطامع الإنسان وأباطيل الحياة ، ولهذا فقد شاع شعره بين الناس وتناقلته الألسن واهتم به العامة والخاصة .
• لقد كان في دعوته شديد التأثر بمبادئ الإسلام ، ويضمن معانيه في أشعاره بطريقة لا تخلو من براعة وذكاء :
ألا إلى الله تصيـر الأمـور ما أنتِ يا دنياي إلا غرور
إن امرءا يصفو له عيشـة لغافل عمــا تجـــن القبــور
مقتبسا هذا المعنى من قوله تعالى : " ألا إلى الله تصير الأمور " .
• ويقول مشجعا على ذكر الله وعبادته وشكره :
للـــه عاقبـــة الأمـــور طوبــى لمعتبـر ذكـــور
طوبـــى لكــل مراقـــب ولكــــل أواب شكــــور
من قوله تعالى : " ولله عاقبة الأمور " .
• ولو أردنا أن نتقصى ما اقتبسه أبو العتاهية من القرآن والسنة لوجدنا ذلك شيئا كثيرا ، يطالعنا في زهدياته ، في كل قصيدة ، وفي كل صفحة من ديوانه أو ما يقرب ذلك ، ولقد لاحظ ذلك القدماء والمحدثون .
• يرى ابن المعتز أنه في قوله :
فانظر بعينيك حيث شئـ ـت فلن تــرى إلا بخيـــلا
أراد ما في سورة الإسراء " قل لوكنتم تملكون خزائن رحمة ربي لأمسكتم خشية الإنفاق ، وكان الإنسان قتورا " .
• وفي قوله :
يا أيها الرجل الحريص أما ترى أعلام وجهك كل يوم تدرسُ
بك لا أبا لك قـد خلقت موكــلا ملك يعـد عليـك ما تتنفـــسُ
تراه قد ألبس هذا المعنى الذي تفهمه من قوله تعالى: " وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " .
وأيضا في قوله ، وكما يرى المبرد :
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ** وينجو بإذن الله من حيث يحذر ُ
ومعنى ذلك واضح أخذه من الآية الكريمة التي تقول : " عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " .
وأبو العتاهية ، بالرغم مما قيل عنه ، يقر بوحدانية الله وتفرده في الكثير من قصائده ، فهو حين يقول :
شهدنا لك اللهم أن لست والداً ** ولكنك المولى ولست بمولود
يذكرك بقوله تعالى : " قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد " .
وأخبر أحمد الأزدي قال ، قال لي أبو العتاهية: " لم أقل شيئا قط أحب إليّ من هذين البيتين :
ليت شعري فإنني لست أدري أي يوم يكون آخر عمري
وبــأي البـــلاد يقبض روحـي وبأي البلاد يحفــر قبــري "
ومؤدى هذين البيتين وكما هو واضح مستوحى من الآية الكريمة : " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " .
وروى أبو الفرج أن ثمامة بن أشرس قال : أنشدني أبو العتاهية :
إذا المرء لم ينفق من المال نفسه تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنمـا مالي الـــذي أنـــا منفـــــقٌ وليس المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مــال فبـادر بـــه الــذي يحق وإلا استهلكته مهالكـه
فقلت له : من أين قضيت بهذا . . ؟ قال : من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " .
وحدث الصولي عن محمد بن أبي العتاهية قال : جاذب رجل من كنانة أبا العتاهية في شئ ، ففاخر عليه الكناني واستطا بقوم من أهله ، فقال أبو العتاهية :
دعنـي مــن ذكــــر أب وجــــد ونسب يعليك سور المجـد
ما الفخر إلا في التقى والزهد وطاعة تعطي جنان الخلد
وأنت ترى أنه قد استقى هذا المعنى الذي ضمنه هذين البيتين من قول الرسول الكريم :
" لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى " .
وكذلك نرى معنى هذا الحديث في قوله ، عندما عير بمهنة الحجامة التي اشتغل بها بعض الوقت :
ألا إنما التقوى هي العز والكرمْ وحبـــك للدنيـــا هــو الفقـر والعـــدمْ
وليس علــى عبـد تقـي نقيصــةٌ إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجمْ
• وأخيرا ألا ترى معي في هذا البيت :
ولا تدع مكسبا حـلالا تكـن منه على بيـان
معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب التاجر الصدوق والصانع الناصح لأنه حكيم ".
وبهذه الأمثلة يتبين لنا سر ذلك الطابع المميز وتلك المعاني الجليلة الواضحة التي تفرد بها أبو العتاهية عن بقية شعراء عصره .. يقول طه حسين في مقارنة أجراها بين إبي العتاهية وأبى العلاء المعري : " كان أبو العلاء يستقصي من الفلسفة ولا يتقيد بالدين ، وكان أبو العتاهية يستقصي من الدين ويتقيد به ، وهذا الفرق ظاهر في شعر الرجلين " .
عـزلتــه
استطاع أبو العتاهية أن يصل إلى منزلة رفيعة ومكانة مشرفة في القصر وبين الشعراء وعامة الناس .. والرجل الطموح لا يتخلى ابدا عما كسب بنبوغه وتفوقه إلا إذا كان في سبيل الإرتقاء إلى منزلة أعلى ومكانة أسمى .
وأبو العتاهية لا كغيره من الشعراء ، تخلى عن المكانة الرفيعة والمنزلة المشرفة التي نالها ، وهجر مجالس الخلفاء ونوادي الشعراء ، واعتزل الناس ليعيش حياة العزلة والتفرد .
فهل كان وراء ذلك ثمة سبب وجيه يفسر لنا سر هذا التجرد والانقطاع عن مخالطة الناس ؟ ذات يوم اجتمع الشعراء على باب الرشيد ، فأذن لهم فدخلوا عليه ، وأنشدوا .
فأنشد أبو العتاهية :
يا من تبغي زمنا صالحا صلاح هارون صلاح الزمن
كل لسان هـو في ملكــه بالشكر في إحسانـه مرتهـن
فاهتز الرشيد طربا وقال له : أحسنت والله . وقيل أنه : " ما خرج في ذلك اليوم أحد من الشعراء بصلة غيره" .
قضى أبو العتاهية مدة في عيشة الهناء والبسط بين حاشية الخلفاء ، يحضر مجالسهم ويطربهم بشعره . ويقال أنه اتصل بموسى الهادي بعد موت المهدي ، ثم بالرشيد بعد موت الهادي فنادمه ، ولكنه ما لبث أن ترك منادمته بعدما تنسك وعدل عن قول الشعر إلى التصوف والزهد ، وطفق يذكر الموت وأهواله ، فحبسه الرشيد ، ثم رضى عنه فأطلقه ، فعاد إلى الشعر ، ولكنه ترك الغزل والهجاء ، غير مبال في ذلك من أن يفقد مكانته الرفيعة في القصر ، وأن يحبس ويعذب .
أمره الرشيد ذات يوم أن يقول شعرا في الغزل ، فامتنع ، فضربه الرشيد ستين عصا ، وحبسه ، وحلف إلا يطلق سراحه حتى يقول شعرا في الغزل .
وأخبرنا محمد بن يزيد : بلغني أن الرشيد لما ضرب أبا العتاهية وكل به صاحب خبر يكتب إليه بكل ما يسمعه ، فكتب إليه أنه سمعه ينشد ،
أمـا واللــه إن الظلـم لـــؤم وما زال المسئ هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصـوم
قال : فبكى الرشيد ، وأمر بإحضار أبي العتاهية وإطلاقه ، وأمر له بألفي دينار .
• إنك تحس دائما في كلماته ، نبرة من الصدق والثبات على المبدأ .. استمع إليه وهــو يهجــو الملوك :
إن الملـوك بــلاء حيثمـــا حَلُّــوا فـلا يكـن لك في أكنافهـــم ظـــل
ماذا ترجى بقوم إن هـم غضبوا جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا
وإن نصحت لهم ظنوك تخدعهم واستثقلـوك كمـا يستثقل الظــــل
فاستغـن بالله عن أبوابهم كرما إن الوقـوف علـى أبوابهــــم ذل
وقال أبو العتاهية : ماتت بنت المهدي ، فحزن المهدي عليها حزنا شديدا حتى امتنع عن الطعام والشراب ، فقلت أبياتا أعزيه بها ، فوافيته وقد سلا وضحك وأكل وهو يقول : " لا بد من الصبر على ما لا بد منه ، ولئن سلونا عمن فقدنا ، ليسلون عنا من يفقدنا ، وما يأتي الليل والنهار على شئ إلا أبلياه " . فلما سمعت هذا منه قلت : يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي أن أنشدك ؟ قال : هات ، فاأنشدته :
ما للجـديــن لا يبـلى اختلافهمــا وكــل غصـن جديـد فيهمــا بــال
يا من سلا عن حبيب بعد ميتته كم بعد موتك أيضا عنك من سال
كـــأن كـــل نعيـــم أنــت ذائقـــه من لذة العيش يحكي لمعــة الآل
لتلعبـــن بــك الدنيا وأنت تـــرى ما شئت من عبـر فيها وأمثـــــال
ما حيلة الموت إلا كل صالحـــةٍ وإلا فمــا حيلـــة فيــــه لمحتـــال
فهذا قول شديد يقول يلقيه في وجه الخليفة ، فيه تعريض لاذع ، ولكنه مغلف بنسيج الوعظ ، وموشى بصياغة التزهيد التي تجعل ثقيله سهلا بل محبوبا إلى نفس المهدي الذي قال له بعد الإنشاد :
" أحسنت ويحك وأصبت ما في نفسي ووعظت وأوجزت " .
• ثم يعدل عن منادمة الخلفاء إلى الزهد والتصوف ، وتاب توبة صادقة ابتعدت به حتى عن الناس الذين كانت له معهم قصة أخرى . فقد لقى من الناس ضلالا وفسادا ، كما وجد منهم عنتا وبلاء ، فتكونت في نفسه هذه الصورة القاتمة عنهم :
برمـت بالنـاس وأخلاقهــم فصرت أستأنس بالوحدة
ما أكثر الناس لمعمر وما أقلهم فــي منتهى العــدة
والواقع أنه كان برما بالناس ساخطا عليهم . فقد حدث روح بن الفرج قال : "شاور رجل ابا العتاهية فيما ينقشه على خاتم ، فقال : أنقش عليه : لعنة الله على الناس ، وأنشد البيتين السابقين " .
وفي الحق أن أبا العتاهية كان يشعر في معاملتهم له بالكثير من النقص والهوان . فقد حدث الصولي عن محمد بن أبي العتاهية قال : جاذب رجل من كنانة أبا العتاهية في شئ ففخر عليه الكناني ، واستطال بقوم من أهله ، فقال أبو االعتاهية :
دعنـــيَ مــن ذكـــر أبٍ وجـــدِّ ** ونسبٍ يعليك سور المجــدِ
ما الفخر إلا في التقى والزهدِ ** وطاعة تعطي جنان الخلـدِ
ولعل هذا هو السبب و الوجيه الذي كان يقود أبا العتاهية إلى التصوف واعتزال الناس .. وقد كان الناس لا يكفون عن ملاحقته ، يعيرونه بنسبه تارة وبمهنته تارة أخرى ، ولا يجد أبو العتاهية ما يدفع به أذاهم عنه إلا أن يقول :
ألا إنما التقوى هي العز والكرم ** وحبـــك للدنيـــا هــو الفقـر والعــدم
وليس على عبـد تقـــي نقيصــة ** إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
وعن مناسبة هذين البيتين ، أخبر يحي بن خالد أن أبا العتاهية قد نسك ، وأنه جلس يحجم الناس للأجر تواضعا بذلك ، فقال : ألم يكن يبيع الجرار قبل ذلك ؟ فقيل له : بلى ، فقال : أما في بيع الجرار من الذل ما يكفيه ، ويستغني به عن الحجامة .
لهذا فقد اعتزل الناس ، واعتزل أيضا الخلفاء والأمراء ، وهذا دليل صدق على تنسكه وزهده في وقت كان يتودد فيه كبار الشعراء بشعرهم طالبين الشهرة والمال .
• وهكذا آثر أبو العتاهية العزلة والوحدة ، وطفق يردد في شعره أن اعتزال الناس والبعد عنهم هو الخير والسداد والصلاح :
سأقنع قلبي أن يحن إليهم ** وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وأقطع أيامي بيوم سهولة ** أزجي به عمري ويوم حزونـي
أو يردد قولـه :
تعاليق
رد: دفاع عن أبي العتاهية .. جميل جداً
الإثنين فبراير 20, 2012 3:12 pmfares_XPS
شكرااا لك اخي الكريم موضوع جميل
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى