27102012
الجلطة/ قصة قصيرة .. ؟؟
يقولون إنّ الإنسان يحتاج، أحياناً، إلى هزّة لكي يستفيق. وقد جاءتني الهزة على حين غفلة، من حيث لا أدري ولا أتوقع.. أنا الذي كنت أتصور أن بدرية لم تعد سوى قطعة من أثاث البيت.. زوجة تشبه الأجهزة الإلكترونية والسيارات الجديدة: صامتة ولا يهدر محركها عند الدوران.
لم أسأل نفسي، يوماً، لماذا تصمت بدرية؟ ولم أكن في حالة مزاجية تسمح لي بأن أستدرجها إلى الكلام. وأنا هنا أقول "حالة مزاجية" بينما الحقيقة هي أنّه طبع تمكّن مني وصار رديفاً، لي. فالمزاج يروق ويعتدل، بين وقت وآخر.. أمّا حالتي فكانت قرفاً مستداماً وتكشيرة على طول الخط. ومع هذا فقد ظلت زوجتي على طاعتها وصمتها ولم تتبرم، في أي يوم، من فساد طبعي ولم تحاول أن تسألني عن: "لماذا بوزك شبرين اليوم؟".
كنت أدرك أنّها ليست سعيدة معي، لكنها قانعة بقسمتها، مثلما قنعت أنا بقسمتي ورضيت بزوجة لا تجمعني وإياها أي خيوط مشتركة، لا في التفكير ولا في نوعية الإهتمامات. بل إنني لم أسأل نفسي، يوماً، عن إهتمامات بدرية، ولا عن هواياتها، ولا عن الأمور التي تجعلها سعيدة ومبتسمة. وكنت أتصور أنّ التلفزيون هو مركز حياتها، بعدي وبعد شؤون بيتي وأولادي. ولم يكن ذلك التصور يزعجني كثيراً... لكنه كان يبدو لي نوعاً من الخمول الزائد على الحد.
امرأتي خاملة. تؤدي وظائفها بصمت ولا تناقش أو تتمرد. فهل كانت حياتي ستكون أكثر حيوية لو وقعت على زوجة من النوع المتحرك، ذي المحرك الضاج بكل أنواع الأصوات والقعقعات؟ لا أدري. كل الذي أعرفه أنّهم اتصلوا بي في مكان عملي، ذات ظهيرة، ليقولوا لي إن زوجتي ترقد في غرفة العناية المركزة بعد إصابتها بجلطة ونقلها إلى المستشفى. ولم أهرع إلى هناك على الفور. بل تداعيت على الكرسي مثل جثة ثقيلة، ورحت أتصور حياتي من دون بدرية. ماذا لو ماتت؟ ماذا لو أصابها الشلل والبكم؟ مَن سيدير بيتي ويربي صغاري ويضع لي عويناتي في المكان الذي أتركه فيها ومفاتيح سيارتي في متناول اليد؟ هل صحيح أنّها ضرورية إلى هذا الحد؟ وكيف لم أعرف مدى تعلقي بها وحاجتي إليها إلى أن دق ناقوس الخطر وجاءت هذه الهزة الأليمة، لكي توقظني من حالة إطمئناني البليد والسلبي والمجحف في حقها؟
وقفت عند فراشها والدمعة في عيني. ونظرت إليَّ وابتسمت كأنّها فرحت، بل فوجئت بحضوري وجزعي. وكانت ذابلة وواهنة وشاحبة والأنابيب تخرج من منخريها وفمها. وقلت لها بصدق: "لا تتركيني".
لاشك في أنّ هذه الحادثة الصحية، هي أهم ما جرى لي في حياتي... أنا التي عشت ونضجت وتزوجت وأنجبت ثلاثة أبناء، من دون أن يصدر عني صوت خارج على المألوف. هل صرخت من ألم الصداع عندما ضربتني الجلطة تلك الظهيرة؟ لا أذكر ما حدث لي. لقد شعرت بثقل في الفك ثمّ ارتخت أجفاني ولم أعد أشعر بشيء. وعندما فتحت عينيّ، عرفت أنني في المستشفى، وكانت الممرضة تقول لي إنني بخير... رغم أنني لم أكن مهتمة بنفسي، بل أريد الإطمئنان على أولادي، وعلى سلمان زوجي.
ثمّ جاء سلمان، ورأيته يبكي أمام سريري فزغردت فرحة عارمة في صدري. إنّ زوجي حزين من أجلي ويتطلع إليَّ بعينين تطلبان، بل تتضرعان، أن أبقى معه. وكنت هزيلة وبلا قوة، صفراء وواهنة مثل خرقة قديمة، لكنني رأيت نفسي، لأوّل مرّة، جميلة في عيني سلمان، وأنّه لا غنى له عني.
هل كان ضرورياً أن تصيبني الجلطة الدماغية، لكي تتحرك مشاعر زوجي وتطفر دمعته من أجلي؟ تمنيت لو أبقى على ذلك الفراش ساعات لا تنتهي... رغم أنني كنت، في الوقت نفسه، أتمنّى النهوض من رقادي والعودة إلى بيتي لكي أواصل مهماتي الصغيرة غير المنظورة، لكنّها المهمات التي لا تتقنها سواي.
هناك دائماً عمل كثير ينتظرني في البيت. وحتى عندما أكون جالسة أمام التلفزيون فأنا في حالة إنتظار لشيء ما... وقد يكون إنتهاء دورة ماكينة غسل الثياب، أو إستواء اللحم على النار، أو عودة الأولاد من المدرسة، أو مجرّد السكون، لأن سلمان نائم ولا يحب أن يتحرك أحد في البيت ويُقلق قيلولته. إنّ راحة زوجي هي أجمل هواياتي، لكنّه رجل يتعب كثيراً ويعود إليَّ وهو متعكر المزاج... بوزه شبران.. وأتظاهر بالهدوء ولا أتذمر من طبعه لأنني لا أريد أن أكون زوجة نكدية. ثمّ بماذا ينفعني النكد؟ هل سأجبر زوجي على حبي وأضربه على أصابعه بالمسطرة لكي يبتسم في وجهي؟
لكنّه ابتسم لي في المستشفى، رغم أن عينيه كانتا دامعتين. وعلى الرغم من أنّه لم يقل لي سوى: "لا تتركيني". فقد كانت تلك العبارة الصغيرة تحمل في طياتها عبارات أخرى، أولاها: "أحبك". لم أسمعها منه، لكني أحسست بها وتأكدت منها ولمست حرارتها وتدفأت بها، وأنا في قاع الوهن والإنخلاع من الحياة.
ليت الجلطة ضربتني من قبل، لكي أعرف قدْري في عيني سلمان! كيف أتركه وهو على هذه الحال؟
تعاليق
رد: الجلطة/ قصة قصيرة ..
السبت أكتوبر 27, 2012 3:12 pmkhalifa-dkf
شكرا لك اخي جزاك الله خير
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى